أغلب الشعب المصرى والعربى عاش هذه الأيام، قبل وبعد الحرب. لكننا ننسى، ولا نعطى هذه اللحظة الفارقة فى حياتنا حقها. تخيل عزيزى القارئ أنك تعيش يوم 5 أكتوبر!. بل تخيل أكثر، أن انتصار مصر وقواتها المسلحة فى 6 أكتوبر 1973 لم يحدث؟!. أغلب الشعب المصرى والعربى عاش هذه الأيام، قبل وبعد الحرب. لكننا ننسى، ولا نعطى هذه اللحظة الفارقة فى حياتنا حقها. لم نتخذها موعظة لحياتنا ولم نتخذ أبطالها قدوة لنا، وهم الأجدر، رغم أنها كانت لحظة فارقة فى العالم كله. لأنها غيرت وجه التاريخ، وغيرت نظريات عسكرية وتقنية ونفسية عالمية. قدمت للعالم الوجه الحقيقى للجندى المصرى، الذى آمن بالله واستعد للعبور من المجهول إلى المعلوم، استعد بالعلم والتدريب، وأطلق صيحته الإيمانية «الله أكبر» ليزلزل كيان العدو الصهيونى. هذه الرؤية الجديدة استهدف منها أن نفيق، ونثق فى قدراتنا، ونثق فى قيادتنا وقواتنا المسلحة. كما استهدف أن نصطف جميعًا لحماية مصرنا العظيمة. يجب أن نحتفل، ولا يصح أن نحولها إلى خناقات وصراعات شخصية، بينما حققنا، معًا، معجزة بكل المقاييس. مستوطنات فى سيناء الصورة الأولى عشناها قبل 6 أكتوبر، ولكى نصفها بإتقان أستعين بالصديق، الخبير العسكرى الدكتور مهندس عبد العزيز عمر، قال لى: لا بد أن نربط أكتوبر بحروب الاستنزاف، وهزيمة 67، وأيضًا حرب 56، وربما بحروب الخليج. كلها مرتبطة بالطمع فى أرض سيناء. كما أن «قناة السويس»، شريان الحياة للعالم، ينقل البترول والبضائع الاستراتيجية إلى الغرب، ولا بديل لها سوى ممر الرجاء الصالح المكلف جدًا، وكان سعى العدو إغلاقها. الصورة قبل 6 أكتوبر، سيناء محتلة وبها مستوطنات يهودية، القناة مغلقة، العدو بتحصينات قوية «خط بارليف»، سد منيع وساتر ترابى ملغم بالنابلم على شاطئ القناة، حالة اللاسلم اللاحرب، دعم أمريكى شامل لإسرائيل، حتى تفوقت على الدول العربية مجتمعة. روسيا تتوافق مع أمريكا ليبقى الوضع فى الشرق الأوسط كما هو، بحسب الحرب الباردة بين القطبين. نعيش حالة يأس كامل، العار يلاحقنا، جميع الشواهد تقول إنه من المستحيل أن تحارب. داخليًا حالة اقتصادية سيئة وفقر شديد، ومظاهرات طلابية. الوضع فى الدول العربية لم يختلف عن مصر. إسرائيل تحتل الجولان وجبل الشيخ. الخليج سيطرة كاملة من الشركات البريطانية على النفط. الصدبق الدكتور محمد مصطفى عبد الوهاب أستاذ الجراحة الشهير يصف الوضع الذى عشناه: كنا نشعر باليأس، ونردد مفيش أمل، مفيش فايدة، لا يوجد أى ضوء فى نفقنا المظلم. نعانى من هزيمة مذلة، وفقر مدقع، وطوابير للحصول على أبسط مستلزمات الحياة، مواصلات مهينة، شوارع متهالكة، تليفونات صامتة، قناة السويس مغلقة، والسياحة بائسة.. تملك اليأس من الشباب حتى المجند منهم. بدأنا نفقد الإيمان بالآية الكريمة «إن مع العسر يسرًا». ظللنا سنوات فى هذا الوضع المهين واليأس والإحباط حتى ظهيرة اليوم التالى. المارد ينتفض فجأة ينتفض المارد داخل المصريين، ويتحد العرب على كلمة سواء، وتبدأ معركة العبور المجيد. ولولا انتصارنا وشهداء وأبطال مصر، لما تحررت سيناء ولما عاد أهل بورسعيد والسويس والإسماعيلية إلى منازلهم ولما حصلنا على كنوزنا من سيناء واستمرت سرقة مقدراتنا ومستقبلنا وأصبح بترول خليج السويس وغاز المتوسط ليس لنا وامتلأت سيناء بالمستعمرات وأصبحت أمرًا واقعًا يستحيل تغييره. الثأر لكرامتنا وهنا استعير من الدكتور أسامة حمدى، الطبيب العالمى الشهير، أستاذ السكر والباطنة بجامعة هارفارد الأمريكية، وصفه: حين تنظر إلى صورك القديمة، لا تملك أن تبعد الذكريات التى تقفز من فورها بلا استئذان لتعيدك إلى يوم 6 أكتوبر 1973، فتشع البهجة فى نفسك، والحسرة فى قلبك على يوم جميل لن يعود. لكنها غيرت - إلى الأبد - حياتى ومفهومى عن أهم خصائص شعبنا المصرى العظيم. وأريد لكل شباب مصر اليوم أن يعيها، ليعرفوا حقيقتنا وقدرتنا. كنت عائدًا إلى منزلى من مدرسة المنصورة الثانوية العسكرية وأنا صائم. كان يومًا مرهقًا كالعادة، تدربنا فيه على الزحف على بطوننا، والتصويب بالبنادق. وعند عودتى فوجئت بالبيان الأول الذى يقول: «قامت قوات العدو بالهجوم علينا فى منطقة الزعفران والسخنة، وزوارقه تهاجم الشاطئ الغربى للقناة، وقد قامت قواتنا المسلحة برد الهجوم». بيان مقتضب وغامض، ربما من باب الحيطة حتى لا تتكرر مأساة بيانات 67 البائسة، التى أفقدتنا جميعًا الثقة تمامًا ببيانات الجيش حينذاك. مونت كارلو ! أسرعت الخطى إلى المنزل. فتحت الراديو، بحثت عن محطة مونت كارلو، التى كانت - مع الأسف - مصدرنا الدائم للمعلومات، لأعرف أن جيشنا هو الذى هاجم منذ دقائق الشط الشرقى للقناة! عدت سريعًا إلى إذاعة البرنامج العام لأستمع إلى فاصل طويل من الأغانى الوطنية. توقفت الموسيقى فجأة لتذيع البيان الثانى، ثم الثالث، وكلاهما يتحدث بالغموض نفسه عن هجوم العدو، ونجاحنا فى صد العدوان، واشتباك طائراتنا مع طيران العدو، وقذف مواقعه ردًّا على الاعتداء الغادر! كان البيان الرابع حوالى الساعة الرابعة ظهرًا، أكثر وضوحًا ليعلن لأول مرة «عبور قواتنا قناة السويس» فى عدة مواقع، ومهاجمة خط بارليف المنيع! لم أصدق ما سمعت، فقد كنا جميعًا فى أشد الشوق واللهفة لأخذ ثأرنا من العدو المغرور، الذى انتزع أرضنا، وأذل كرامتنا ست سنوات، مرت علينا كالدهر، حتى يئس الكثيرون من عودتها ثانية. كنا نكره ما كنا عليه!. كنا نكره القول المتكرر بأن الموقف غامض، ويحيطه الضباب!. العبور العظيم أثلج صدورنا ما شهدناه فى التليفزيون فيديوهات العبور المبهجة التى وجدناها تعاد مرات ومرات على موسيقى وأغانٍ وطنية. كنت أحس بنشوة غريبة، كلنا أصبحنا فجأة أسرة واحدة تجتمع معًا، ويعرف بعضها بعضًا دون سابق معرفة. كنا نحس أننا نثأر لعرضنا الذى انتهك فى غفلة وبعنف. كان عبق الانتصار فى الجو تحسه وكأن الكون قد غيّر حاله وتحول فى لحظة إلى جنة ما لها مثيل. تناسى الناس خلافاتهم فأصبحنا كتلة واحدة يحدوها الأمل بدوام النجاح لما نسمعه. فى اليوم الثانى غنت المجموعة لحنًا شجيًا ما زال فى أذنى حتى اليوم «بِسم الله.. الله أكبر باسم الله.. باسم الله». كلمات عبقرية، ولحن قوى أصبحت حناجرنا تردده على نحو غير شعورى. ورأيت الشباب الذى ثار على حكومته بالأمس يتمنى أن يحارب اليوم، بل يحسد كل من له شرف القتال والاستشهاد. ورئيس «السادات» أصبح قائدًا وبطلًا عظيمًا يشار إليه بالبنان. كنا نضحك من طريقته فى الكلام، فإذا بنا نعشقها وكأنها طرب أصيل. خجلنا حتى من شعورنا الطويلة، وقمصاننا (المحزقة) والملوّنة، وتمنينا أن نكون بأناقة كل جندى وضابط فى ميدان المعركة. لقد عاش جيلى هذه الأيام العطرة التى قلما يجود الدهر بمثلها، فتمنيت أن يحس أولادنا بما أحسسنا به فى هذه الأيام، ليعرفوا قيمة وقدرة حبيبتنا مصر حين تريد فتفعل، وحين تصمم فتنال مرادها، ولو بَعُدَ أو أخفاه الضباب. أفلا يتدبرون «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ - وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ» (الأنفال 60).