القاهرة أكدت أكثر من مرة أنها لن تتهاون فى حماية حقوقها المائية، وأنها مستعدة للجوء إلى الآليات القانونية والدبلوماسية كافة لم يعد ملف سد النهضة الإثيوبى مجرد قضية خلافية بين دول حوض النيل الشرقى، بل تحول إلى تهديد مباشر يمس حياة الملايين فى مصر والسودان. فإثيوبيا، التى أقدمت مؤخرًا على ملء بحيرة السد بالكامل دون تشغيل معظم التوربينات، اضطرت إلى فتح مفيض الطوارئ لتصريف كميات ضخمة من المياه، فى خطوة أحادية افتقرت إلى التنسيق مع دولتى المصب، وأسفرت عن أضرار فادحة خصوصًا على السودان وغرق مساحات محدودة بمصر. فى الأراضى السودانية، ارتفع منسوب النيل الأزرق بشكل مفاجئ، لتغرق مساحات واسعة من الأراضى الزراعية ويضيع موسم زراعى كامل. وجاءت خطورة الأمر مضاعفة لأن توقيت التصريف تم بعد انتهاء موسم الفيضان، أى فى وقت لم يكن السودان بحاجة فيه لهذه الكميات، مما تسبب فى غرق الأراضى بدلًا من ريها فى يوليو وأغسطس. كما تعرضت سدود حيوية مثل سد الروصيرص، الذى يبعد 100 كيلومتر فقط عن السد الأثيوبى وتبلغ بحيرته عشرة كيلومترات فحسب، لمخاطر جدية نتيجة غياب المعلومات عن توقيت فتح البوابات أو حجم التصريف. هذه العشوائية لم تقتصر على تهديد البنية التحتية، بل مسّت الأمن الغذائى لملايين السودانيين.. وقد دفعت هذه التطورات السودان إلى رفع حالة الاستنفار إلى مستوى «الخطورة القصوى»، محذرًا من فيضانات مدمرة بمجرى النيل نتيجة التصريف العشوائى من السد الإثيوبى، وهو ما يبرهن على أن المخاطر لم تعد محتملة بل واقعية وداهمة. أما فى مصر، فقد امتص السد العالى وبحيرة ناصر الصدمة، بفضل سعتهما التخزينية الضخمة. ومع ذلك، فإن استمرار النهج الإثيوبى الأحادى يربك خطط الرى والزراعة ويصعّب مهمة إدارة المياه فى دولة صحراوية تعتمد بنسبة تتجاوز 95% على نهر النيل كمصدر وحيد للحياة. أى اضطراب فى تدفقاته يعنى تهديدًا مباشرًا لمياه الشرب والغذاء لأكثر من مئة مليون مواطن.. المفارقة أن إثيوبيا ليست دولة فقيرة مائيًا لتبرر هذه السياسات. فالأمطار السنوية لديها تقترب من ألف مليار متر مكعب، أى عشرين ضعف حصة مصر من النيل، فضلًا عن أنهار وبحيرات ومياه جوفية متجددة. لكنها تفتقر إلى الرؤية السياسية التى تجعل من السد مشروعًا للتعاون الإقليمى بدلًا من ورقة ضغط.. القانون الدولى واضح فى هذا الشأن، إذ يقوم على مبدأ «لا ضرر ولا ضرار» فى إدارة الأنهار المشتركة. ومصر والسودان لم يعارضا حق إثيوبيا فى التنمية، لكنهما طالبا باتفاق قانونى ملزم يحدد قواعد الملء والتشغيل ويضمن التنسيق المسبق. غير أن أديس أبابا اختارت سياسة فرض الأمر الواقع، وهو ما يهدد بتفاقم الأزمات بدلًا من حلها. القاهرة أكدت أكثر من مرة أنها لن تتهاون فى حماية حقوقها المائية، وأنها مستعدة للجوء إلى الآليات القانونية والدبلوماسية كافة، بينما يظل السودان الطرف الأكثر هشاشة بحكم قربه الجغرافى وتأثره المباشر بأى تفريغ مفاجئ. الواقع يفرض على البلدين توحيد موقفهما لضمان حماية شريان الحياة المشترك، خاصة أن الأضرار الحالية فى السودان قد تتحول غدًا إلى أزمة أكبر تمس مصر مباشرة.. إن الفارق كبير بين حق إثيوبيا المشروع فى التنمية وبين السياسات الأحادية التى تضر بجيرانها. فالتنمية الحقيقية لا تقوم على خلق الأزمات، بل على التعاون وتبادل المنافع. وإذا كانت مصر قد نجحت طوال ستة عقود فى إدارة السد العالى بكفاءة دون الإضرار بأى طرف، فإن على إثيوبيا أن تدرك أن استمرار غياب التنسيق لا يهدد فقط السودان ومصر، بل استقرار الإقليم بأسره.. هذا التصرف العشوائى لم يكشف فقط زيف ادعاءات إثيوبيا بحماية السودان من الفيضانات، بل أكد أن السد تحول إلى مصدر تهديد بدلًا من أن يكون أداة للتنمية. التجربة أثبتت أن السد الإثيوبى لم يكن مشروعًا للتنمية، أو لتوليد الكهرباء كما تروج إثيوبيا، بل تحول إلى ورقة ضغط سياسى، وأداة تهديد لاستقرار المنطقة، ومصر والسودان يدركان أن النيل خط أحمر لا يمكن المساس به، وحمايته مسئولية تاريخية لا تقبل التهاون.