منذ أن برز السد الإثيوبي إلى السطح كمشروع ضخم على مجرى النيل الأزرق، انشغل الرأي العام المصري بالسيناريوهات المحتملة لتأثيره على أمن مصر المائي، وإذا كان الخوف الأكبر هو «العطش» الناتج عن حجز كميات من المياه، فإن القلق الثاني كان دائمًا من «الفيضان» إذا قررت إثيوبيا فتح بوابات السد أو في حال تعرض السد لأي خلل إنشائي. لكن السؤال الجوهري هو: هل مصر عرضة للغرق؟ الحقيقة أن مصر ليست مكشوفة أمام أي طارئ فيضاني، فمنذ بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، تمتلك القاهرة درعًا مائيًا هائلًا يتمثل في بحيرة ناصر، التي تصل سعتها إلى أكثر من 160 مليار متر مكعب، هذه البحيرة قادرة على امتصاص أي زيادات كبيرة في تدفقات النيل الأزرق، بما يجعل احتمال غرق الأراضي المصرية ضعيفًا للغاية. وإدراكًا لخطورة الموقف الجغرافي، عززت مصر التعاون مع السودان في مجال تبادل المعلومات والرصد المائي، إذ أن الخرطوم هي أول من تستقبل أي موجة فيضانية ناتجة عن السد الإثيوبي، وتم تطوير شبكات محطات القياس والإنذار المبكر على طول مجرى النهر لمتابعة حركة المياه أولًا بأول، وإعطاء الوقت الكافي للتعامل مع أي زيادات مفاجئة. لم تكتف مصر بالاعتماد على السد العالي فقط، بل نفذت أيضًا مشروعات حماية على جسور النيل والترع الرئيسية، إضافة إلى إنشاء بحيرات وخزانات صناعية في بعض المناطق الصحراوية لاستيعاب مياه الفيضانات والاستفادة منها في تغذية الخزان الجوفي أو مشروعات التنمية، هذه الإجراءات حولت أي موجة فيضانية محتملة من «خطر» إلى «فرصة» لتخزين المياه.. ومنها: 1. إصلاح مفيض توشكى والاستفادة منه بسعة تخزينية تصل إلى 56 مليار م3 لتغطية مساحة تقارب 1000 كم عبر ثلاثة بحيرات رئيسية تستقبل فائض المياه عندما يتجاوز منسوب بحيرة ناصر مستوي 174 مليار م 3. 2. إنشاء واحدٍ من أكبر وأطول "الأنهار الصناعية" في الصحراء الغربية بطول 114 كم لزراعة 2.2 مليون فدان، وهو مشروع قادر على استيعاب كمياتٍ كبيرة من المياه. 3. تطوير وإنشاء قناطر وبحيرات وممرات مائية عملاقة للتحكم في نهر النيل، بما يقلل من مخاطر الفيضانات والجفاف ويحدّ من تأثيرات سدّ النهضة قدر الإمكان. والقاهرة لم تتعامل مع ملف الفيضان باعتباره قضية فنية بحتة، بل اعتبرته ورقة ضغط سياسي، فقد أكدت مرارًا أن أي تصرف أحادي من جانب إثيوبيا بفتح البوابات دون تنسيق يشكل تهديدًا لأمن المنطقة، وأن الاتفاق القانوني الملزم هو السبيل الوحيد لضمان التشغيل الآمن للسد. وفي الوقت نفسه، بعثت برسائل ردع عبر تصريحات القيادة السياسية ومناورات عسكرية مشتركة مع السودان، لتؤكد أن الأمن المائي خط أحمر. وفي النهاية، مصر لا تُغرق "الفيضان ليس شبحًا يهدد مصر، بل هو تحدٍ تعاملت معه الدولة بعقلانية وخطط مسبقة". من خلال السد العالي، وأنظمة الإنذار المبكر، ومشروعات الحماية الهندسية، إضافة إلى الحضور السياسي الإقليمي، استطاعت مصر أن تُحصّن نفسها ضد سيناريو الفيضان. ولذلك، فإن الحديث عن «غرق مصر» نتيجة فتح بوابات سد النهضة يبدو أقرب إلى المبالغات الدعائية، بينما يبقى التهديد الاستراتيجي الحقيقي هو نقص الحصة المائية، لا الفيضان. وبينما يظل النيل شريان حياة لا بديل له، فإن القاهرة اختارت أن تواجه التحديات بواقعية تجمع بين العلم والسياسة والردع، لتبقى مصر آمنة من الغرق، حريصة على حقها التاريخي في البقاء على ضفاف النهر.