في الأيام الماضية، اشتعلت الساحة الاقتصادية بتصريحات متناقضة صدرت عن اثنين من أبرز الأصوات في عالم العقار: نجيب ساويرس، رجل الأعمال المعروف بجرأته وانتقاداته الحادة، وطارق شكري، رئيس غرفة التطوير العقاري، الذي يسعى لطمأنة السوق والدفاع عن توازنه. وبين من يرى أن السوق تتجه نحو أزمة حقيقية، ومن يؤكد أنها تسير في مسار صحي ومنطقي، يبرز السؤال الذي يشغل المتابعين: نصدق مين.. ساويرس ولا شكري؟ في الوقت الذي يرى فيه نجيب ساويرس أن السوق العقارية في مصر تعاني من تشوهاتٍ حقيقية في آليات التمويل والتسعير، يخرج المهندس طارق شكري رئيس غرفة التطوير العقاري ليؤكد أن السوق "قوية، متوازنة، وبعيدة تماماً عن الفقاعة". وبين الواقعية الحادة لساويرس والتفاؤل الحذر لشكري، يقف المتابع حائراً متسائلاً: نصدق مين؟ ساويرس، الذي لا يتحدث كثيراً إلا عندما يرى "خللاً في الاتجاه العام"، قدّم مجموعة من الملاحظات الصريحة، منها رفضه لأنظمة السداد الطويلة التي تصل إلى 15 عاماً، معتبراً أنها "تقتل السوق" وتحوّل المطورين إلى بنوك تعمل بلا ربح حقيقي. انتقاداته لفرض رسوم بأثر رجعي على مشروعات الساحل الشمالي لم تكن بعيدة عن صلب الأزمة: غياب الرؤية الواضحة لاستقرار بيئة الاستثمار. في المقابل، ظهر شكري على الضفة الأخرى من النهر أكثر هدوءاً وتنظيماً، مقدماً بالأرقام ما يراه دليلاً على "سلامة السوق". يقول إن هوامش أرباح المطورين لا تتجاوز 10 إلى 15%، وأن الأسعار الخيالية التي نسمع عنها لا تمثل سوى حالات محدودة في الصف الأول بالساحل الشمالي، ربما لا تتجاوز 100 وحدة في بلد يتجاوز سكانه 110 ملايين. ويضيف أن السوق المصرية لا تعرف الفقاعة، لأن التمويل العقاري لدينا لا يتجاوز 4% من إجمالي السوق، مقارنةً بأكثر من 100% في أزمة الرهن العقاري الأمريكية عام 2008. ساويرس من جهته يطرح رؤية رأسمالية صافية، ترفض "النظام المختلط" الذي يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية، مطالباً بتمكين القطاع الخاص وإعادة صياغة علاقة الدولة بالسوق. بينما شكري يطالب الدولة بالتدخل عبر تمويل عقاري بفائدة مخفضة من 8 إلى 12% لدعم الطبقة المتوسطة، ما يعني أن كلًّا منهما يرى الحل من زاوية مختلفة تماماً: الأول يقول "حرروا السوق"، والثاني يقول "ادعموا السوق". ساويرس يتحدث بلسان المستثمر الذي ضاق ذرعاً بالبيروقراطية وبالمدن التي تُبنى على حساب المنطق الاقتصادي. أما شكري فيتحدث بلسان المطور الذي يخشى أن تضر الشائعات بثقة العملاء والمستثمرين. الأول يرى أن طول فترات السداد خطر يهدد قدرة المطورين على العمل، والثاني يراها ضرورة فرضها ضعف التمويل العقاري وغياب القروض الميسرة للمشترين. لكن الحقيقة أن كلاهما على حق من زاويته الخاصة. فساويرس يقرأ السوق من موقع رأس المال المغامر، الباحث عن بيئة مستقرة وشفافة، بينما شكري يقرأها من موقع المهنة، التي تعرف أن أي هزة في الثقة يمكن أن تشل حركة مئات الشركات وآلاف العمال. القطاع العقاري بالفعل يسهم في تشغيل أكثر من 100 صناعة ويعمل به نحو ربع المصريين، كما يقول شكري، لكنّ المشكلة ليست في "قوة القطاع" بل في "توزيع العبء": من يتحمل الفاتورة، المطور أم المشتري؟ عندما يقول ساويرس إن "70% من سعر الوحدة أصبح فوائد أقساط"، فهو يضع إصبعه على جرح التمويل العقاري في مصر، حيث تحوّل نظام التقسيط الطويل إلى بديل غير منظم للتمويل البنكي. وعندما يقول شكري إن "الطلب حقيقي لكن التحدي في ارتفاع قيمة الأقساط"، فهو في الحقيقة يعترف بالمشكلة نفسها ولكن من جهة المشتري لا المطور. الطرفان يلتقيان في نقطة واحدة فقط: أن العقار ما زال الملاذ الآمن للمصريين، وأن السوق رغم الضغوط لا تزال جاذبة، لكنهما يختلفان في تفسير كيف ولماذا. ساويرس يرى أن إنقاذ السوق يكون بتمكين القطاع الخاص ووقف التوسع الحكومي غير المدروس. وشكري يرى أن الإنقاذ يكون بإعادة التوازن الاجتماعي عبر تمويل ميسر يحافظ على الطلب الحقيقي ويمنع الانفجار. إذن، من نصدق؟ ربما نصدق الاثنين معاً — إذا قرأنا ما بين السطور. ساويرس يحذرنا من "الاستمرار في الطريق ذاته"، وشكري يطالب ب"استكمال الطريق ولكن بحذر". الأول يصرخ من برج الرأسمالية، والثاني يهدئ الأعصاب من مقعد التنظيم والتمثيل المهني. وفي النهاية، لا يمكن إنكار أن صوت ساويرس ضروري لتذكيرنا بأن السوق تحتاج حرية، ولا صوت شكري يمكن تجاهله لأنه يذكّرنا بأن السوق تحتاج عدالة.