حوار: سانتياحو ايراثو ترجمة: مها عبد الرءوف منذ أن اكتسحت بروايتها «هذيان» الأسواق الأدبية قبل عقدين، أصبحت الكاتبة لاورا ريستريبو أحد الرموز الأدبية البارزة فى كولومبيا بأعمال تركز على أفكار غير مألوفة، تشير فيها إلى أن الجنون لا يسكن دوما فى عقول الأبطال، بل يتجسد أحيانا فى المشهد الأوسع مجتمع يألف العبث حتى يصبح عادة، ويأنس اللامعقول حتى يبات جزءا من روتينه اليومى. فى هذا الحوار مع مجلة «رايا» تتحدث ريستريبو عن دور الأدب كوسيلة للمقاومة، وعن روايتها «أنا الخنجر.. أنا الجرح»، كما تتحدث عن حملة «اشهد من أجل فلسطين». الجنون من أكثر الأمور وضوحا فى أعمالك، ويتجلى فى روايتك «هذيان»، لكن أمام إبادة جماعية تنقل على الهواء مباشرة، هل نحن أمام شكل من أشكال الجنون الجماعى الممتد؟ أم أن ما نشهده اليوم جنون مختلف عمّا عرفناه فى أزمنة مضت؟ فى الواقع هذا سؤال فى محله تماما، فمنذ نشرت «هذيان» قبل 20 عاما كان ما يشغلنى بشأن الجنون يتمثل فى هذا السؤال: إلى أى مدى يتغلغل الجنون فى بنية المجتمع، وإلى أى حد يؤثر علينا بشكل شخصى؟ فى الثمانينيات عندما كتبت الرواية كانت هناك الحرب مع تجار المخدرات، وكانت آلة التدمير تطيح بكل شيء ما عدا المخدرات ذاتها والعنف المصاحب لها. فمن خلال أجوستينا، بطلة الرواية الرئيسية، تأخذنا الرواية إلى أزمة نفسية عميقة، لكن المفارقة أنها ليست أزمة منفردة بل تحيط بها شخصيات أخرى تجسد الخراب الحقيقى. ما أريد قوله إن جنون أجوستينا ليس سوى الجانب الأكثر نقاء وصحة فى النص، إذ أن ما يبدو حقا مرعبا وفاجعا ليس اضطرابها الداخلى، بل ذاك الواقع المختل الذى يطوقها من كل جانب. أما ما يتعلق بالوضع فى غزة، فأنا أعتقد أن هذه الفظائع والإبادة الجماعية تمثل نهاية لجميع المواثيق الانسانية وانهيارا كاملا لأى اتفاق أو تعاقد بين البشر. وعلى هذا فمن المهم أن نعود لنطرح السؤال من جديد: إلى أى حد يمكننا أن نبتلع ما نراه كل يوم على شاشات التلفزيون وأن نصمت خوفا أمامه؟ هذا يسممنا من الداخل وأتحدث بصيغة الجمع لأننى أعنى الإنسانية جمعاء والعالم بأسره. الصمت المخجل أمام هذا المشهد يفتت الروح ويمزق الكيان. فى أعمالك يظهر أيضا الصراع الحاد بين الأدب والمجتمع وبين الأدب والسياسة.. فى رأيك ما الدور الذى يمكن أن يقوم به الأدب تجاه ما يحدث فى غزة؟ أعتقد أنه دور مهم للغاية.. إنك لو أمعنت النظر فستدرك أن الأزمة ليست سياسية أو عسكرية فحسب، بل أزمة ثقافية عميقة. بالنسبة لى فإن الابادة الجماعية التى تحدث فى غزة وضعت نهاية للثقافة الغربية. أعنى أن جميع القيم التى يقال إنها منبثقة من الثقافة الغربية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب فى تقرير المصير، انهارت تماما وظهرت سوءاتها. إن دعم الحكومات الغربية للإبادة يكشف عن أنها لا تزال مولعة بالاستعمار: طرد الشعوب من أوطانهم عبر ارتكاب المجازر وتدمير الثقافات. ولهذا فإن الشعر والأدب والرقص وحتى الراب لها دور مهم جدا فى إعادة بناء الحس الانسانى. أسعى للبحث عن كل ما هو إنسانى، لأن هذا المفهوم تم طمسه بداخلنا الرأسمالية فى حد ذاتها تلتهم كل ما له علاقة بالإنسانية بحثا عن متع زائفة، ما يؤدى بدوره إلى التواطؤ فى مواقف حرجة وشديدة الإنسانية كالتى تحدث فى غزة. ملخص القول أننى أؤمن تماما بدور الثقافة كخطوة تجاه استعادة الإنسانية وإعادة بنائها هل تتذكر تلك الأوقات التى كان كاتب مثل كارلوس فوينتس وغيره من كبار كتاب أمريكا اللاتينية يضعوننا فى مقارنة مع أوروبا ويصنفون أمريكا اللاتينية فى خانة الهمجية.. الواقع أن أوروبا تتداعى تحت وطأة نزعتها العسكرية وخضوعها للولايات المتحدة وتواطئها مع نتنياهو وإرسال الأسلحة إليه لارتكاب الابادة. إزاء هذا الانهيار لم تعد النماذج الغربية تعطى أى أفق واضح ولم تعد أوروبا نموذجا يحتذى، ولذلك فإن علينا التركيز على إعادة بناء الثقافة وإعادة تشكيل النظرة للعالم واستعادة الحس الإنسانى. وسط هذه الإجابات تظهر مبادرة مثل «اشهد من أجل فلسطين» التى شاركت فيها من البداية.. حدثينا عنها وهل ترين أنها تأتى فى سياق ما تحدثت عنه سابقا عن دور الثقافة والفن فى التصدى للابادة؟ فى حقيقة الأمر فالهدف أن نعطى الناس متنفسا ومساحة للتعبير. فعلى الرغم من أننا فى كولومبيا ومختلف أنحاء العالم نشهد أهوال الابادة فى غزة، فإن للمفارقة، الوضع أفضل كثيرا من ذى قبل لقد كان هناك وقت نتقبل فيه بدون نقاش نزعات الهيمنة، مثل الهيمنة الأمريكية، وكانت ثمة مذابح ترتكب فى العديد من بقاع العالم دون أن يدرى بها أحد ودون ان تثير أى نقاش. أما الآن فنشهد حراكا ضخما، والمأساة الفلسطينية تحولت إلى عامل محفز فى وقت اشتعلت فيه جذوة الضمير الجماعى. أما الولاياتالمتحدة فقد انكشفت على حقيقتها، وأصبح جليا للجميع أن الحلم الأمريكى ما هو فى الحقيقة إلا كابوس أمريكى، وهذا ما نحتاجه خلال الفترة القادمة فى الولاياتالمتحدة تجرى الآن نقاشات حول ما إذا كان ترامب يعتزم قصف المكسيك بعد أن أعلن تصنيف عصابات المخدرات كجماعات إرهابية، والأمر نفسه ينسحب على فنزويلا ومادورو. تلك الشرارة التى توقظ الضمائر أمر لا غنى عنه، ومن هنا ولدت فكرة الحملة التى نسعى من خلالها إلى إعطاء الناس المساحة للتعبير عما يعتمل بداخلهم من ألم شديد وحزن عميق بل وهلع لرؤية الأطفال يقتلون عمدا وبشكل ممنهج باستخدام الجوع. لقد اقترحت الحملة ظهيرة الجمعة 29 من أغسطس ليقوم كل شخص بتسجيل شهادته عبر حساباته على شبكات التواصل أو وسائله الاعلامية على أن يبدأ بتسجيل الشهادة بعبارة «غزة، ثم يذكر اسمه ويعبر عن رفضه للإبادة الجماعية والجرائم الاسرائيلية ثم ينهيها بقوله «أشهد وأمرر الكلمة»، ولحسن الحظ فالحملة تشهد رواجا وإقبالا كبيرا وينضم إليها المزيد والمزيد من الأشخاص. أريد أن أتوقف عند روايتك «أنا الخنجر وأنا الجرح»، ذلك أن العنوان يأخذنى إلى أعمال بودلير، وعندما بحثت فى القاموس عن معنى «ميسركورديا» وجدت أنه يعنى السلاح الذى كان يستخدمه الفرسان فى العصور الوسطى (كما أنها تعنى الرحمة) فإلى حد يمكن أن تكون الرحمة خنجرا وبأى معنى؟ ميسركورديا داجر، الشخصية الرئيسية فى الرواية، واسمها كما ذكرت مستوحى فعلا من بودلير ولكن مع تعديل طفيف، تقوم منذ البداية على التناقض العميق، وقد بدا هذا لى ضروريا لكى أتمكن من فضح أولئك الطغاة الذى يملأون المشهد اليوم مثل نتنياهو وترامب، وكذا طغاتنا هنا.. ولكن السؤال من أى زاوية يمكن القيام بذلك. إن ابتكار شخصية طيبة لتعترض بدا لى أمرا غير مقنع لأن الشخصيات الطيبة صارت الآن باهتة حتى كادت تصبح من شخصيات القصص المصورة. ولهذا اخترت شخصية متناقضة ويحمل اسمها نفس التناقض. فمن جانب يستحضر المعنى المسيحى لكلمة «ميسركورديا» الذى يعنى التعاطف ومساعدة الآخرين، ومن الناحية الأخرى يشير إلى الخنجر، ذلك السلاح الذى يعود للقرون الوسطى ويستخدم لإجهاز الضربة الأخيرة. و«ميسركورديا داجر» جلاد ولكنه جلاد مثقف، قاطع رؤوس ينفذ عمله وفقا لأوامر سيده، ذلك الإله المتجبر الذى يعتبر نفسه صاحب الحق المطلق فى تحديد من ينبغى أن يموت. وقد أعطى ميسركورديا أوامر بأن يختار كل يوم شخصا مختلفا لينهى حياته. وكان هدفى من الرواية أن أطرح تساؤلا حول الخيارات التى يملكها ميسركورديا فى التمرد على أوامر سيده الذى قضى سنوات طويلة فى خدمته بكل ولاء وإخلاص دون أن يناقش أيا من أوامره. ومن هنا كانت الرواية لأننى فكرت فى أنه يتعين أن تكون هناك وسيلة ما للتعبير عن الموقف الذى نعيشه، لا عن طريق خبر صحفى أو سرد مباشر للأحداث أو رصد لأعداد القتلى، ولكن عن طريق الأدب، عن طريق صياغة استعارة أدبية يمكن من خلالها أن نتحاور مع القراء حول هؤلاء الطغاة المجرمين الذى بدأوا يسودون العالم. بنية هذه الرواية يغلب عليها الرمزية حتى أنها تقترب من الطابع الأسطورى، وتذكرنا بأعمال كلاسيكية مثل «مزرعة الحيوانات»، والكثير من أعمال كافكا. فلماذا اخترت هذا الأسلوب بالتحديد، وما الذى قدمته الاستعارات الرمزية مقارنة بالسرد المباشر؟ فى رأيى، هناك حاجة ملحة إلى إعادة صياغة الأساطير وتطويرها كى تساعدنا على فهم الرعب الذى نعيشه نحن غارقون فى حالة من الذهول العميق تجعل استعادة قوة الأساطير أمرا ضروريا، ربما على نحو مشابه لما فعلته القصص والروايات المصورة على الرغم من طابعها الشعبى. أقول إنه من الممكن بناء أساطير معاصرة من خلال ما يجرى الآن عبر الرمزية أو السخرية على غرار روايتى الأخيرة، فهى رواية ساخرة لأننى أسعى لأن أضحك القارئ، ذلك أنه فى خضم العجز الذى نعيشه أمام جبروت القوى الكبرى فإن كل طاغية له نقطة ضعف أو ما يوصف «كعب أخيل».. وفى حالة ترامب مثلا هى واضحة تماما: غروره. الفكرة إذن أن نتناول هذا الغرور من زاوية ساخرة، وأن نضحك من هذه الشخصيات البشعة التى رغم بشاعتها تفرض علينا سلطة مطلقة.