يستهوينى أحيانًا التأمل فى دلالات الأسماء، خاصة عندما يسوقها القدر دون ترتيب، فتستشعر أن ثمة رسائل بين السطور تحتاج إلى تأمل وتدبر، وظُهر أمس الأول كنا على موعد مع وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى، محمد عبد اللطيف، الذى استضافنا بقاعة حملت اسم عميد الأدب العربى طه حسين، الرجل الذى تحولت كلماته عن أن «التعليم حق كالماء والهواء» إلى شعار تتناقله الأجيال. اللقاء الذى حفل بالكثير من التفاصيل المهمة، وتحدث خلاله الوزير بشفافية ووضوح مقدرين مع رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف المصرية وعدد من الإعلاميين، كان مناسبة للوقوف على رؤية المسئول عن عقول الملايين من أبنائنا، وأعترف بأننى ذهبت إلى اللقاء محملًا بالكثير من الأسئلة والرؤى حول ما أثارته قرارات الوزير القادم حديثًا إلى واحدة من أعرق وزاراتنا على الإطلاق. الصورة التى صنعتها حملات الهجوم على قرارات الوزير بشأن إعادة ترتيب مواد المرحلة الثانوية، وبعض القرارات المتعلقة بمسار العمل فى المدارس، تسببت فى تشويش الرؤية لدى قطاعات عريضة من المصريين الذين يجمعون على ضرورة إصلاح التعليم، لكنهم يتحولون إلى 100 مليون خبير تربوى لا يتفقون على رأى واحد عندما يصل الأمر إلى مناقشة إجراءات ذلك الإصلاح. ■■■ تحدث الوزير برؤية واضحة كرجل تعليم صاحب خبرة طويلة فى مجاله، استعرض أرقامًا مزعجة بشأن كثافة الفصول، واعترف بمشكلات ندركها جميعًا وتتطلب إمكانات ضخمة لتفكيك ذلك الميراث الثقيل، لكن الوزير فى الوقت ذاته لم يقدم أفكارًا خيالية، بل كان واقعيًا إلى درجة كبيرة عند تناوله لمشكلات التعليم وطرحه لأفكار الحل على الأقل فى المستويين القريب والمتوسط. اختار الوزير أن يبدأ من أسفل إلى أعلى، التقى بأكثر من 5400 مدير إدارة ومدرسة فى 15 محافظة خلال أيام معدودة، استمع إلى المشكلات ومقترحات الحلول وبدأ العمل بطريقة لامركزية، تراعى الإمكانيات المتاحة على الأرض، وتوفر المرونة المطلوبة لمعالجة سريعة وفعالة للمشكلات. استمعنا خلال اللقاء لحلول أراها واقعية فى كثير من جوانبها وقابلة للتطبيق فيما يتعلق بمجابهة «الهلع» التاريخى من «بعبع» الثانوية العامة، ومنها تخفيف عبء المقررات من 32 مادة يدرسها الطالب فى المرحلة الثانوية وهو وضع غير مسبوق فى أية أنظمة تعليمية لها سمعتها فى العالم، كما استمعنا إلى أفكار تأخر تطبيقها لمواجهة «مافيا» الغش وسماسرة «السناتر»، وينبغى أن تحظى بكل الدعم من الدولة والمجتمع على حد سواء. ندرك جميعًا والوزير قبلنا أن التنفيذ هو محك الحكم على التجربة، وأن الأفكار تحتاج إلى إرادة صادقة وإدارة فولاذية لتحويلها إلى واقع، رغم أنف البيروقراطية وشبكات المصالح المعقدة التى تكونت على مدى سنوات طويلة، وبات ما تتحصل عليه من إيرادات هائلة تمتصه من شرايين إنفاق الأسر المصرية على التعليم، موردًا ميسورًا يصعب أن تتخلى عنه بسهولة، لكن الجميع يحتاج بالفعل إلى تجربة حقيقية يمكن الالتفاف حولها، وتقديمها كنموذج لتغيير جاد يعيد الثقة فى الخدمة التعليمية كركيزة أساسية وجادة تساهم فى بناء الإنسان المصرى. والحقيقة التى أؤمن بها منذ سنوات طويلة، أن إصلاح التعليم فى بلادنا يحتاج إلى رؤية جريئة وحلول خلاقة، ومساندة مجتمعية، فضلًا عن إمكانيات كبيرة لا ينبغى أن تظل ملقاة على عاتق الدولة وحدها، بل ينبغى أن يكون هناك إسهام من مؤسسات المجتمع ككل، باعتبار أن إصلاح التعليم والاستثمار فيه مصلحة للجميع. وينبغى أن ندرك أيضًا أنه مهما بلغت الرؤى التى يطرحها المسئولون عن التعليم من ابتكار ومواكبة لمتغيرات نظم التعليم العالمية، لكنها ستبقى أسيرة الهجوم من شبكات المصالح، وحالة الجدل والهلع التى تصيب الملايين من أولياء الأمور عند طرح أى جديد، لكن بناء تجربة جادة لإصلاح التعليم ستجمع حولها الداعمين وتكشف المتربحين. ■■■ بعد دقائق معدودة من انتهاء لقاء وزير التربية والتعليم، كنا على موعد مع لقاء آخر، لكن هذه المرة فى «ساحة الشعب» بالعاصمة الإدارية الجديدة، لنشهد انطلاق مبادرة «بداية جديدة»، التى شارك فى إطلاقها الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء وعدد كبير من الوزراء، والتى تستهدف تعزيز وترسيخ جهود المشروع الأعظم للدولة المصرية وهو «بناء الإنسان»، فالإنسان هو الركيزة التى تقوم عليها الأوطان، وهو الهدف دائمًا من أى مسعى للإصلاح والبناء. وما قدمته الدولة المصرية من إنجازات على مدى العقد الماضى يشهد بأننا أمام تحول كبير فى رؤية وفكر الدولة لبناء إنسان قادر على استيعاب ماضيه، وفهم حاضره، وامتلاك مستقبله. هذه الرؤية لم تأتِ من فراغ ولم يكن الطريق أمام تطبيقها مفروشًا بالورود، بل تطلب الأمر إرادة سياسية هائلة، وإصرارًا لا يلين لمواصلة الطريق وسط تحديات غير مسبوقة، وصعوبات تفرضها علينا أوضاع الإقليم والعالم، ومحاولات لا تتوقف للعرقلة والتشويه والنيل من كل خطوة تنطلق بنا نحو الأمام، لكن التجربة أثبتت صواب الرهان على الإنسان المصرى، حاليًا ومستقبلًا. الصحة والتعليم واستخدام كل أدوات الثقافة والتنوير لبناء إنسان صحيح الجسد والعقل، هى البداية الصحيحة لكل مشروعات الاستثمار فى المستقبل التى تؤكدها تجارب دول العالم المتقدم، والطريق يبدو معروفًا للجميع، لكن التطبيق يظل هو الأصعب، ويتطلب تضحيات كبيرة وتفهمًا وصبرًا، كى تتحقق الاستمرارية، فمشاريع بناء الإنسان تحتاج إلى أجيال كى نحصد ثمارها، لكنها تبقى الاستثمار الآمن دائمًا للحفاظ على الأوطان، وهذا ما تفعله الدولة المصرية وتتمسك باستمراره مهما كانت التحديات.