تظل الرواية هي الجنس الادبي الأكثر رحابة واتساعا في كتابة تاريخ الشعوب وهي المرآة التي تعكس المجتمع، وهي سلاحه الإبداعي - كما قال د. جابر عصفور في كتابه زمن الرواية في مواجهة التعصب والتسلط والتطرف . هكذا، كانت الرواية العربية، التي بني عليها مشروع النهضة في محاولة تأصيل الوعي المدني وإشاعته بين أبناء الأمة، وفي سعيه إلي استبدال وعي المدينة الحديثة، متعددة الجنسيات والثقافات والاتجاهات، بوعي المدينة القديمة المنغلقة علي نفسها في نفورها من الآخر. السؤال الذي يشغلني: هل الرواية يمكن أن تدخل في حروب من أجل البقاء والانتماء والهوية والوطن كسلاح لا تلوثه الدماء، هل لها دور في تحقيق كتابة التاريخ الذي يصنعه المنتصرون والمنهزمون أيضا، كل حسب هواه ؟! طرحت هذا السؤال علي الباحث والروائي الدكتور عمار علي حسن الذي طرح رؤيته في هذه السطور:» حين نسمع مصطلح »حرب الروايات» ينصرف الذهن علي الفور إلي الوصف المتناقض لواقعة واحدة علي ألسنة ساسة في لحظة صراع ما. ولهذا نسمع دائما روايتين مختلفتين في كثير من الأحيان، واحدة للسلطة وأخري للمعارضة، وواحدة للشرطة وأخري للمتظاهرين مثلا، وواحدة للمنتصر وأخري للمهزوم في الحروب، وواحدة للمستعمًر وأخري للمستعمًر .. وهكذا. وقد نقلب المصطلح، كنوع من المشاكسة اللغوية، فيصير »رواية الحرب» وبالتالي نجد أنفسنا أمام مسار طوعي معتاد هادئ يسير، إذ إن الروايات التي جعلت من الحروب، بمختلف درجاتها وأنواعها، مادة لها أصبحت كثيرة وتراكمت علي مدار الزمن لتشكل تيارا أدبيا صار البعض يطلق عليه »أدب الحرب» والذي ساح في ألوان أدبية شتي إلي جانب الرواية مثل الشعر والقصة والمسرحية، وصور المعاناة الإنسانية وقت القتال، أو رسم مسار المعارك وأرخ لها، أو حاول أن يمجد النصر، ويخفف من وطأة الهزيمة، وهكذا. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد المتداول في الأدبيات السياسية حول »رواية الوقائع بطرق متناقضة» ولا »أدب الحرب» بل تعداه الآن إلي حديث عن »حروب السرد» التي تعني التنافس الحاد بين الكتاب ودور النشر والدول في مجال كتابة الرواية وإصدارها وتوزيعها، والقتال الأشد ضراوة في سبيل حصولها علي جائزة محلية أو إقليمية أو دولية، في سعار شديد، دخلت عليه قوي السوق الرأسمالية بكل آلياتها، حتي أننا بتنا نسمع عن أن أصحاب دور النشر هم من يحسمون التنافس علي الجوائز الأدبية، وليست القيمة الفنية للنص ولا حتي التاريخ الأدبي لصاحبه، لأن الجائزة وقتها ستؤدي إلي مزيد من توزيع الرواية الفائزة، ما يعني أرباحا أكثر في جيوب الناشرين. أما وإن فاق التنافس مسألة مبدعي الروايات ومن ينشر لهم ليصل إلي منافسة أو حتي صراع بين الدول أو الأمم فهذا ما بات يجسد المعني الحقيقي لاصطلاح »حرب الروايات»، وهو مسار ضمن ما تسمي »الحرب الثقافية» التي هي فرع لصراع الهويات، والتنافس الحاد حول حيازة المكانة، والنزال القوي بين الأيديولوجيات التي تسعي إلي الانتشار والتغلغل، وكسب مزيد من المخلصين لها، أو حتي المتفهمين لمقولاتها وتصوراتها، ومصطلح »الحرب الثقافية» لم يعد بجديد، لاسيما بعد أن كشفت الكاتبة الإنجليزية فرانسيس ستونر سوندرز في كتابها »الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب» الذي ترجمه إلي العربية طلعت الشايب كيف عملت (سي. آي . إيه) علي حرمان الاتحاد السوفيتي، الذي انهار عام 1991، من استغلال الأدب في نشر الاشتراكية عبر العالم، في ظل كتابات »الواقعية الاشتراكية» و»الواقعية الفجة» التي كان مضمونها يتبني، بدرجات متفاوتة، التصورات حول الصراع الطبقي وفائض القيمة واستغلال الطبقة العاملة وضرورة توحدها في وجه ظالميها. وقد تم هذا بتشجيع الأعمال الأدبية والفنية التي تنزع عن الأدب أي دور في نشر قيم معينة أو الانتصار لتوجهات اجتماعية وسياسية محددة، ولو بطرق غير مباشرة. وقد تورط في هذه اللعبة أدباء كبار مثل آرثر ميللر وأرنست همنجواي وأندريه مالرو وإلبرتو مورافيا وإيتالو كالفينو، بل تورط فنانون مثل تشارلي شابلن ومارلون براندو وغيرهما، دون دراية منهم في هذه اللعبة، التي امتدت أيضا إلي العالم العربي وجذبت إليها أدباء كبار فانساقوا وراءها أو انخرطوا فيها عن غير قصد منهم.. وهناك وجه آخر لحرب الروايات يتعلق هذه المرة بتقليد عربي قديم، إذ إن كل قبيلة كانت تفخر بعدد الشعراء الفطاحل الذين تنجبهم، وتعتبر هذا من ركائز قوتها، وأسباب حيازتها لمكانة متقدمة بين القبائل، والآن وصلنا إلي أن كل دولة تفخر بعدد روائييها، بعد أن صارت الرواية هي النوع الأدبي الأعلي انتشار والأشد تأثيرا، أو باتت هي »شعر الدنيا الحديثة» حسب تعبير نجيب محفوظ. حتي أننا وجدنا أن الرواية أصبحت تدخل في الحديث عن »المركز» و»الأطراف» علي المستوي العربي، في إعادة لصياغة الأسئلة القديمة في الثقافة العربية عمن يكتب؟ ومن ينشر؟ ومن يقرأ؟، والذي اختلفت فيه الآراء والروايات. وما هو حادث عربيا، يجري دوليا علي نطاق أوسع، لاسيما مع اتساع حركة الترجمة. علي صعيد أكثر توثيقا لإشكالية الرواية كسلاح إبداعي في وجه سارقي التاريخ والاوطان يري الروائي د. ناصر عراق:» في ظني أن الفن عمومًا، والأدب بشكل خاص، يسهم في ترسيخ فضائل إنسانية كثيرة، من أهمها تعزيز فكرة الوطن وتأكيد نعمة الهوية، ولا ريب في أن الرواية أسهمت بنصيب في إبراز هذه المعاني الإيجابية، لا في في الأدب العربي وحده فحسب، وإنما في الآداب العالمية أيضا. ذلك أن فن الرواية يستطيع أن يستعير من الواقع، ومن التاريخ أحداثا ذات صلة بفكرة الوطن والمشكلات التي قد تتعرض لها هذه الفكرة النبيلة، مثل أن يصبح الوطن عرضة للاحتلال من قبل دولة أجنبية غازية فيصيب الوطن العطب وتتحلل لحمته الاجتماعية، أو يسطو علي السلطة طاغية مستبد فيعيث في الأرض فسادًا، فينشر الفقر والجهل والمرض، أو يبرم الطاغية معاهدات واتفاقات مع دول أخري تعرض أمن الوطن للخطر وهكذا. فعندما كتب نجيب محفوظ روايته الجميلة (كفاح طيبة) استلهم الفترة التي احتل فيها الهكسوس مصر في زمن الفراعنة، وكيف استطاع القائد العسكري أحمس أن يشحذ همم الشعب المصري ويعد العدة لطرد المحتل دفاعًا عن حرية الوطن وحق أهله في أن يعيشوا بكرامة، ولا ننسي بطبيعة الحال أن محفوظ نشر هذه الرواية في عام 1944، أي في ظل الاحتلال الإنجليزي لمصر.. كذلك كتب عبد الرحمن الشرقاوي روايته الفاتنة (الأرض) عام 1954، ويوضح خلالها إصرار الفلاح المصري الشريف علي التمسك بأرضه في مواجهة أطماع الباشوات الكبار وإقدامهم علي تفتيت أرضه والتعدي عليها. وفي الأدب العالمي أتذكر جيدا رواية (متي يطلع الفجر يا رفيق) للكاتب الفرنسي جان بول أوليفييه، التي تتناول قصة الثورة الروسية عام 1917 ضد جبروت القيصر وأطماع الرأسماليين الروس، أو رواية (كل شيء هادئ علي الجبهة الغربية) للكاتب إريك ماريا ريماك، والتي تستعرض أهوال الحرب العالمية الأولي، وكيف دافع الجنود عن أرضهم بمنتهي البسالة رغم ما تعرضوا له من أهوال وكوارث نفسية تدين هذه الحرب الملعونة. اللافت للانتباه أن مفهوم الوطن يتسع ليشمل قضايا عديدة متنوعة، مثل النهوض بهذا الوطن أو تحقيق العدالة الاجتماعية، فعندما كتب ماركيز تحفته الخالدة (الحب في زمن الكوليرا) كان ينقل عبر قصة غرام ملتهبة دامت أكثر من نصف قرن أحوال بلد تعرض للعديد من الحروب الأهلية عطلت نموه وازدهاره، وعندما كتب الطيب صالح رائعته (موسم الهجرة للشمال) أوضح بذكاء المسافة الواسعة بين التطور الأوروبي ممثلا في إنجلترا، وبين التراجع الوطني ممثلا في السودان، علما بأن الرواية الناجحة ليست منشورًا سياسيًا، وإنما تنهض علي حبكة متينة معززة بخيال خصب، ومصوغة بلغة رشيقة وجذابة. باختصار... الوطن جوهرة ثمينة علي الأدب أن يفخر بها ويجلوها باستمرار.