كانت معرفتي الأولي باسم جمال الغيطاني وأنا في المرحلة الثانوية، فقد كنا نقرأ للأدباء المصريين بكثرة. وكان كل من جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وادوارد الخراط يشكلون كوكبة روائية حداثية بامتياز . كل علي طريقته .هكذا قرأت رواية "الزيني بركات"، تلك الرواية التي حولت التاريخ إلي حاضر يمشي ويتجاوز حدود الزمن المرسوم له .لم تكن رواية تاريخية فحسب ، بل كانت رواية جعلت من التاريخ مرآة لكل الأزمنة. وحين بدأ ينشر روايته الكبري "التجليات" مجزأة في الصحف تابعناها بكل شغف وإعجاب، وجاءت دراسة الناقد المغربي بشير القمري لتمنحها امتدادا عندنا آنذاك وتُوسع من آفاق فهمنا للعب الروائي الحاضر فيها وللعمل التناصي الهائل المبثوث داخل عوالمها . هكذا تابعت بعد ذلك كل كتابات جمال الغيطاني الروائية و شدني الكثير منها . وحين أرسلت إليه ذات زمن دراستي حول "أصداء السيرة الذاتية" للكاتب نجيب محفوظ احتفي بها بشكل رائع ونشرها في جريدة "أخبار الأدب" التي كان يرأسها، مخصصا لها مكان الصدارة فيها . وحين وجدت صدفة وعلي غير ميعاد نسخة من رواية "التجليات" مترجمة إلي اللغة الفرنسية لم أتردد في اقتنائها رغم أن ثمنها وهي تتجلي في لغة موليير كان يساوي أضعاف ثمنها وهي منشورة في لغة المتنبي، اللغة التي كتبت بها أصلا .كانت الترجمة بهية وقوية، ولعلها أكبر رواية عربية، علي صعيد الحجم، تترجم إلي اللغة الفرنسية وتنشر بهذا الشكل البهي ضمن منشورات الدار الباريسية الشهيرة "لوسوي" . بعد ذلك سأجد أن معظم كتبه قد نقلت إلي اللغة الفرنسية وسأقتني منها تحديدا كتاب "نجيب محفوظ يتذكر" وهو كتاب حواري كان قد أجراه جمال الغيطاني مع نجيب محفوظ قبل أن ينال هذا الأخير جائزة نوبل للآداب. كتاب قوي وعميق يتحدث فيه الكاتب نجيب محفوظ عن عوالمه الروائية و عن عشقه للكتابة والمسارات التي قطعها وهو يسير في منعرجاتها وفي طرقها المتشعبة . في كتابات جمال الغيطاني الروائية نجد هناك بحثا عميقا في التراث السردي العربي والاستفادة منه وإعادة تشييده بشكل تناصي عميق يمنح للمسار السردي الروائي امتدادا تركيبيا ودلاليا متعددا. هكذا تصبح رواياته ذات حمولات فكرية حضارية متعددة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تمثل بنيتها السردية المضاعفة . ولقد تجلي ذلك في قصصه كما تجلي بكثير من الإبداعية و الاحترافية معا في كل رواياته بدءا من "الزيني بركات" ومرورا بكل من رواياته الأخري مثل "كتاب التجليات" و "حكايات المؤسسة" و "شطح المدينة" و"نثار المحو" و "وقائع حارة الزعفراني" و "متون الأهرام" وغيرها . لقد شكلت روايات الكاتب جمال الغيطاني محطة أساسية في مسيرة السرد العربي الحداثي، وجعلته يتعرف علي ذاته وماضيه ويستشرف مستقبله .إنها روايات عميقة أثرت في أجيال روائية عربية كثيرة ودفعت بها إلي المزيد من الغوص في التراث السردي العربي و البحث عن كل ممكنات الحكي فيه و تطويعها لجعلها تنتمي إلي السرد الروائي، ليس العربي الحديث والحداثي فحسب وإنما أيضا حتي السرد العالمي منه . لقد استطاع الكاتب جمال الغيطاني عبر رواياته الذائعة الصيت، وعبر مجاميعه القصصية التي لم تحظ بما يليق بها من اهتمام نقدي، أن يؤسس سردا عربيا جديدا يجمع بين السرد التاريخي والسرد الواقعي ويوحد بينهما في بوتقة تخييلية متكاملة العناصر وعميقة الرؤي .فالسرد عنده لا يتجاوز فن الحكي بل إنه يعتمد عليه ، والسرد عنده لا يجعل من لغته تهيم بين ثناياه فحسب، بل إنه يُوظفها لخدمة الحكاية وامتداداتها، لكنه يوظفها أيضا بجمالية سردية فاتنة . وهو ما جعل من كل كتاباته السردية المتعددة، الروائية منا والقصصية تبني عوالم تخيلية قوية تجمع بين الكلمات والأشياء وتوحد بينهما بشكل سردي تخييلي فاتن. لقد عرف السرد العربي لا سيما الروائي منه محطات تحديثية هامة ساهم فيها مجموعة من الكتاب العرب الكبار، وكان جمال الغيطاني واحدا منهم بلا أدني شك .لقد أسس رواية عربية جديدة و منحها بعدا إستيتيقيا جديدا، له جذوره في الحكي العربي القديم ، لكنه يخرج من التراث السردي كي يتجدد باستمرار و يمنح لذاته وجها آخر ، وجها سرديا حداثيا . هكذا سيظل جمال الغيطاني حاضرا بقوة في تاريخ الأدب العربي، فهو واحد من كبار أدبائه و سارديه المميزين، أولئك الذين اشتغلوا بعمق و حاولوا تطويره ومنحه امتدادا قويا وجعله يحظي بالمكانة التي هو أهل لها .لقد جعل من رواياته سجلا فنيا وتعبيريا عن العوالم الممكنة ليس علي صعيد تجسيد صورة الإنسان العربي روائيا فحسب، وإنما وهذا هو الرائع تجسيد صورة الإنسان في كليته، كما أنه قد قدم في هذه الروايات صورة للقاهرة عبر تاريخها وامتداداته، وجعلها مكانا روائيا كبيرا، يحمل عبق التاريخ وعطر الحاضر معا، كما جعل من شخصياته الروائية كائنات تتجاوز عوالمه التخيليية لتتحول إلي رموز أدبية معبرة عن حالات إنسانية كبري إن إيجابا أو سلبا، وهو أمر لا يمكن أن يفعله إلا كاتب كبير، وجمال الغيطاني عبر كل كتبه السردية لا سيما الروائية منها هو بالفعل كذلك. إن الكاتب جمال الغيطاني وهو يبني عوالمه السردية هاته كان يتمثل كبار الكتاب ليس في عصره فحسب ، وإنما في كل عصور الأدب قديما وحديثا ، لهذا فهو حين كتب، فقد كتب من منطلق الرغبة في أن يقدم أدبا عميقا، وقد نجح في ذلك بشكل مثير للإعجاب. إن الكاتب جمال الغيطاني وهو يفارق الدنيا بعد أن ترك مجموعة من الأعمال الأدبية فيها يكون مثل "شاب قد عاش منذ ألف عام" علي حد تعبيره الشخصي، لكنه وهو يعيش في التراث السردي العربي، فإنه قد قام بسرد ما عاشه، وحاول أن ينقل لنا هذا التراث بصيغة أخري، صيغة حداثية بامتياز، وقد توفق في ذلك و تفوق فيه معا. كاتب وروائي مغربي