أقل من 48 ساعة فصلت بين وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلي القاهرة بعد زيارته لموسكو، وبين مغادرته إلي سنغافورة في ساعة مبكرة من صباح أمس، في مستهل جولة آسيوية تشمل بكين التي يصلها غدا، وتختتم بجاكارتا عاصمة إندونيسيا كبري الدول الاسلامية في عدد السكان. لا يخفي الرئيس إعجابه بثلاث دول هي: ألمانيا واليابان اللتان حققتا معجزتين بعد الدمار الذي لحق بهما في الحرب العالمية الثانية، وكذلك الصين التي تعدو بنشاط نحو صدارة اقتصاد العالم. ولا يخفي أيضا تقديره لزعيم هو فلاديمير بوتين الذي استطاع أن يستنهض الشعب الروسي العظيم وينهض بروسيا من كبوتها، ويعيد الكبرياء إلي شعبه والمكانة والمهابة إلي بلاده. وكثيرا ما يشير الرئيس إلي كوريا الجنوبية التي أرسلت بعثة إلي مصر في الستينيات للاستفادة من تجربتها، وهو يقارن بين حالها الآن وأحوالنا، ويتحدث عن السنوات الأربعين التي ضاعت من عمر مصر. زار الرئيس ألمانيا في جولته الأوربية نهاية مايو الماضي، وزار الصين مرة، والثانية تبدأ خلال ساعات، زار روسيا ثلاث مرات، ويستعد لزيارة اليابان في نوفمبر المقبل ومعها كوريا الجنوبية المنطلقة اقتصاديا وتكنولوجيا بسرعة الصاروخ. من الطبيعي ان يزور الرئيس تلك القوي العظمي والكبري، ليتداول مع قادتها في شئون منطقة الشرق الأوسط وأزماتها، ويبحث معهم توسيع آفاق التعاون المشترك في مختلف المجالات، ويلتقي مع رؤساء كبري الشركات بها لجذب الاستثمارات إلي مصر. غير أن الغرض الرئيسي في تقديري من تلك الزيارات تحديدا لدي الرئيس، هو ان يري ويلمس عن قرب تجارب تلك الدول المتقدمة، وكيف صنعتها شعوبها، لنستفيد منها في مشروع مصر الوطني المأمول لبناء الدولة الحديثة الثالثة، بعد دولتي محمد علي وجمال عبدالناصر. لا أذيع سرا إذا قلت إن الرئيس السيسي يتابع تجربة سنغافورة بإعجاب ويرقبها باحترام. صحيح أن سنغافورة ليست دولة قارة كروسياوالصين، وليست دولة أمة كألمانيا واليابان، وليست قوة سياسية مؤثرة أو قوة عسكرية مهيمنة، لكن افتقادها كل هذه المقومات مع تحقيقها كل هذا النجاح الاقتصادي والصناعي الهائل، هو الذي يجعل تجربتها تستحق الدراسة والاستفادة والاقتداء. سنغافورة جزيرة، استقلت عن بريطانيا عام 1963، واتحدت مع ماليزيا في نفس العام، ثم فضت ماليزيا «اتحاد الملايو» عام 1965، لتنضم سنغافورة كدولة مستقلة الي الأممالمتحدة في نفس العام. مساحة سنغافورة قرابة 710 كيلو مترات مربعة أي نحو 1.25٪ من مساحة سيناء، وتبلغ المسافة من أقصي شرق الدولة إلي أقصي غربها 47 كيلو مترا، ومن أقصي شمالها الي جنوبها 23 كيلو مترا فقط. عدد السكان 5.5 مليون نسمة منهم نسبة 42٪ من الوافدين للعمل، وينتمي السكان إلي أعراق مختلفة أبرزها الصينية والهندية والماليزية، ويعتنقون عشرات العبادات السماوية وغير السماوية أبرزها البوذية والهندوسية والمسيحية والاسلام. وتوصف سنغافورة بأنها الدولة المدينة او الميناء، لأن ميناء سنغافورة الذي يعد أحد أكبر مواني العالم هو محور حياتها، فضلا عن أنه محور حركة تجارة العالم بين آسيا وأوروبا. هذه الدولة الصغيرة التي استقلت منذ 50 عاما، ذات التعداد المحدود، بلغ ناتجها القومي الإجمالي 308 مليارات دولار في العام الماضي، اي ما يزيد بنسبة 10٪ علي الناتج المصري. يعتمد الاقتصاد السنغافوري بنسبة 75٪ علي الخدمات، وأهمها توزيع الحاويات والخدمات المصرفية، حيث تعد رابع أكبر مركز مالي في العالم، وبنسبة 25٪ علي الصناعة ومن أهمها الصناعات الالكترونية والكيماوية والغذائية، ورغم أنها ليست من منتجي البترول، بها واحد من أكبر مراكز تكرير النفط في العالم.
جاء الرئيس السيسي إذن الي سنغافورة في أول زيارة لرئيس مصري، وفي ذهنه مشروع تنمية اقليم قناة السويس، الذي يأمل أن يكون سنغافورة الشرق الاوسط، وسبق الرئيس في الزيارة الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس، الذي زار عددا من المنشآت السنغافورية أهمها الميناء الضخم الذي يضم 57 رصيفا، ويعمل بنظام آلي، يتيح إنهاء إجراءات نزول وتسليم الحاوية في 25 ثانية فقط. استهل الرئيس يومه الأول في زيارة سنغافورة أمس بزيارة مركز الوئام الديني الذي انشأه المجلس الاسلامي السنغافوري ويضم ممثلي الطوائف الدينية، والتقي الرئيس بمفتي سنغافورة وممثلي العقائد. ثم زار مصانع شركة «هايفلاكس» المتخصصة في تصنيع محطات تحلية مياه البحر التي يحصل سكان سنغافورة فيها علي 40٪ من احتياجاتهم من مياه الشرب، والمتخصصة ايضا في محطات معالجة مياه الصرف ومحطات الكهرباء الصغيرة. وشهد الرئيس توقيع مذكرة تفاهم بين هيئة قناة السويس والشركة لإنشاء محطة لتحلية مياه البحر وأخري لتوليد الكهرباء بالغاز لتعملا في منطقة العين السخنة جنوب مشروع تنمية قناة السويس. وكعادته سأل الرئيس عن موعد الانتهاء من المحطتين، فقالت رئيسة الشركة إنه بعد ثلاث سنوات، فطلب الرئيس ان يتم الانجاز في عام وظلت رئيسة الشركة منشغلة بالتفكير، ثم قالت للرئيس قبل نهاية الزيارة ان محطة المياه ستنتهي في 18 شهرا، ويمكن ضغط مدة تنفيذ محطة الكهرباء في عامين.. وبدا علي الرئيس عدم الارتياح لهذه المدة! كان من اللافت أن أحد كبار مسئولي الشركة الذي رافق الرئيس في جولته بالمصانع شاب مصري هو علي درويش، وقد ابدي الرئيس إعجابه به وتمني له التوفيق. وكانت المفاجأة أن المسئول الأول عن بدء تطوير ميناء سنغافورة منذ اكثر من 40 عاما كان خبيرا مصريا يدعي مصطفي.. هكذا أخبرنا المسئولون السنغافوريون! واستحوذ مشروع قناة السويس الجديدة علي اهتمام مرافقي الرئيس خلال جولته بمصانع «هايفلاكس» بدءا من رئيسة الشركة، وحتي لوي توك يو وزير المواصلات ورئيس بعثة الشرف المرافقة للرئيس الذي قال له: إننا نرقب بإعجاب انجازكم بشق القناة الجديدة وتشغيلها في عام واحد، ونحن سعداء بها لأنها ستزيد من حركة التجارة العالمية وستحقق لنا ولكم مكاسب كبيرة.
اليوم.. يلتقي الرئيس السيسي مع رئيس الجمهورية توني تان ورئيس الوزراء لي هسين لونج في قصر «استانا» لإجراء مباحثات مع الرئيس، ثم رئيس الحكومة الذي حرص علي أن تتم زيارة الرئيس في موعدها رغم اقتراب الانتخابات البرلمانية. كما يلتقي الرئيس بعد ذلك برؤساء كبريات الشركات السنغافورية علي مأدبة غداء في حوار حول الاستثمار بمصر خاصة في مشروع اقليم القناة. وفي المساء.. يقيم الرئيس السنغافوري مأدبة عشاء تكريماً للرئيس في زيارة الدولة التي يقوم بها لسنغافورة. وقبل مغادرته سنغافورة صباح غد.. يزور الرئيس الميناء الكبير، الذي تلقي عنه تقريراً مفصلاً من الفريق مهاب مميش، للاستفادة من أسلوب الإدارة الحديث لهذا الميناء، قبل شروعنا في تطوير مواني اقليم القناة، لنبدأ من حيث انتهي الآخرون. قبل الظهر يطير الرئيس إلي بكين مصطحباً الوفد الرسمي المرافق له، الذي يضم سامح شكري وزير الخارجية ود.أشرف سالمان وزير الاستثمار واللواء عباس كامل مدير مكتب الرئيس والسفير علاء يوسف المتحدث الرسمي باسم الرئاسة. بينما يبقي من أعضاء الوفد في سنغافورة الدكتور حسام المغازي وزير الري الذي كلفه الرئيس بالبقاء يوماً، لدراسة التجربة السنغافورية في مجال معالجة وتنقية مياه الصرف وإعادة استخدامها في الزراعة بنسبة نقاء تعادل مياه الشرب. ويبحث وزير الري تحديدا سبل التعاون في حل مشكلة مصرف «كتشنر». هذا المصرف تحدث عنه السيسي أمام جمع من رجال الأعمال في إفطار صندوق «تحيا مصر» في شهر رمضان الماضي، الذي توجد به أكثر من 30 بؤرة تلوث بالصرف الصناعي، ويؤثر علي الزراعات بمحافظتي الغربية وكفر الشيخ ويهدد حياة 4٫5 مليون مصري، دون أن يبد أحد منهم أي استجابة!.
الأهم في تجربة سنغافورة، من النهضة الاقتصادية، ولعله الركيزة الأولي لها هو تقديس القانون، الذي يجعل من قطف الزهور جريمة، ومضغ اللبان جناية!.