د : احمد جلال بعد سنوات طويلة من الصمت والاستسلام، تحركت شعوب المنطقة العربية وثارت ضد الظلم والفساد لتبدأ رحلة التغيير. ولكن هل ستستطيع ثورات الربيع العربي ان تنهض بما ورثته من تركة مثقلة بالفساد؟ وما هي التكلفة الفعلية التي دفعتها دول المنطقة؟ وهل يجب غض الطرف عن الماضي حتي تبدأ مرحلة جديدة؟ وكيف يمكن الحد من الفساد في المستقبل؟ منتدي البحوث الاقتصادية في مؤتمر ه السنوي حرص علي استضافة نخبة من كبار المتخصصين في مكافحة الفساد علي مستوي العالم الذين حاولوا وضع حلول فعالة وواقعية لمساندة الدول العربية في ثورتها ضد الفساد. اذا كانت الشعوب قد قامت بثورات، فإن ما حاول تقديمه اساتذة الاقتصاد في المؤتمر كان أشبه ما يكون بثورة فكرية لمواجهة الفساد، استمرت ثلاثة أيام وشارك فيها أكثر من مائتي باحث وخبير من مختلف دول المنطقة العربية، ومن عدد من المؤسسات الدولية، وكبري الجامعات علي مستوي العالم، منهم د.دانيال كوفمان من معهد بروكينجز، ود. جيف نوجنت من جامعة جنوب كاليفورنيا، ود. مشتاق خان من جامعة لندن، ود.حازم الببلاوي نائب رئيس وزراء مصر سابقا ود. زياد بهاء الدين عضو مجلس الشعب. المناقشات خرجت تماما عن الاساليب التقليدية في دراسة الفساد، فدخلت في أعماق أسبابه وآثاره سياسيا واجتماعيا واخلاقيا، واقتصاديا بالطبع، وظهر الحديث عن دور القيم الأخلاقية والدينية وهو أمر غير مألوف في الدراسات الاقتصادية الأمر ذاته انطبق علي سبل محاربة الفساد، فجاءت شاملة وعميقة. قبل الحديث عن سبل محاربة الفساد ومواجهته، كان لابد من الوقوف علي كيفية قياس تكلفته والتي قد تمتد عبر قارات العالم، ولعل ما كشفته الازمة المالية العالمية عام 2008 من فساد في المؤسسات المالية الامريكية ومازال العالم يعاني من آثاره حتي الآن، أكبر مثال علي أن الفساد لا تقف في وجهه الحدود، ولا يفرق بين دول نامية وأخري متقدمة. يقول د. بول كولير استاذ الاقتصاد بجامعة "أكسفورد، في بريطانيا، - وهو خبير تستعين به العديد من الدول لتقدير تكلفة الفساد في القضايا التي يتم الكشف عنها- ان تكلفة الفساد تفوق كثيرا ما يجنيه أصحابه من ثروات وما حققوه من مكاسب أو أخذوه من أموال أو رشوة، ويعطي مثالا بإحدي قضايا الفساد الكبري التي تمكن المرتشي فيها من دخول معترك السياسة فترشح في الانتخابات وانتهي به المطاف ان أصبح وزيرا ان الحديث عن تكلفة الفساد هنا يفوق كثيرا كل ما تحقق من مكاسب وأموال فهو يمتد إلي حرمان المجتمع من الطاقات النزيهة التي يمكن أن تتولي مناصب سياسية. فساد القيم ينتقل د. بول إلي نوع آخر من الفساد وصفه بأنه فساد أصغر يتركز في الانشطة ذات البعد الاجتماعي، مثل التعليم والصحة .. ربط د. بول هذا النوع من الفساد بالقيم التي توجد داخل الهيئات - مثل المدارس والمستشفيات - ويؤكد أن كلا نوعي الفساد له آثار اقتصادية واجتماعية علي الأجل الطويل يصعب تقدير حجمها الفعلي، ولكل منهما اسلوب مختلف في مواجهته، فالاول يحتاج الي تعديل في الاجراءات القانونية للمناقصات الحكومية بالاضافة الي الرقابة المستمرة والثاني يحتاج الي العمل عليه علي الاجل الطويل ولا يكفي فيه تغيير الاجراءات القانونية أو وضع الحوافز المادية للتشجيع علي الالتزام بقواعد العمل، ولكنه يحتاج أيضا الي تغير القيم والاخلاق في المجتمع. المحاسبة والعدالة وينتقل المؤتمر من شرح الفساد وتقدير تكلفته الي الدخول في جذوره والبحث عن أفضل السبل للحد منه والتي جاءت المساءلة والمحاسبة في مقدمتها.. يقول د. عبد اللطيف الحمد رئيس مجلس ادرة الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي ورئيس مجلس أمناء منتدي البحوث الاقتصادية ان مواجهة الفساد تتطلب توافر درجة عالية من المحاسبة والشفافية والملاحقة بعد ذلك، لأنه لابد من احترام الحق العام مع الحرص علي تحقيق العدالة في تطبيق القوانين، فلا يجوز أن تكون هناك مطالبة بمحاسبة اشخاص واتهامهم بدون وجه حق... ويري الحمد انه لا توجد علاقة مؤكدة بين تواجد الفساد أو عدمه ونظام الحكم في الدولة، فكل مجتمع له طبيعته وكل بلد له تاريخه وله ما يناسبه، ولا يعني هذا أن الملكية أفضل أو الجمهورية أفضل، انما المطلوب هو وجود مشاركة شعبية ومحاسبة للمسئولين، وبالنسبة لمواجهة الفساد في المنطقة العربية في المرحلة القادمة يري أنه لابد من التحرك في كل الخطوات الاصلاحية بالعمل علي تحقيق العدالة الاجتماعية و تنفيذ القوانين واعطاء الناس حقوقهم. الفساد السياسي د. أحمد جلال المدير التنفيذي لمنتدي البحوث الاقتصادية يري أن مكافحة الفساد لا تتوقف علي تقديم تشريعات جديدة لعقاب المفسدين، ولكن تتطلب حزمة أو مجموعة من الاصلاحات تعتمد علي نوع ومصدر الفساد وطبيعة النظام السياسي للمجتمع، ويقول للفساد ثلاثة أنواع اساسية ،الفساد الاداري والفساد السياسي والفساد المنظم.. سبب الفساد في كل حالة مختلف عنه في الاحوال الأخري و لمعالجة الفساد أو الحد منه لابد من تحديد سببه.. فالفساد الاداري يظهر عندما يكون هناك موظف عام يملك ان يمنح أو أن يمنع، أو عندما يكون أجره ضئيلا ويضطره لقبول الرشوة حتي يتمكن من تحسين دخله.. علاج هذا النوع من الفساد يكون بوضع قواعد وسياسات واضحة للعمل تحد من صلاحيات الموظف العام وتقلل من فرص تحكمه في الناس أو تفضيل أحد عن الآخر وارساء قواعد للمتابعة وأساليب حمائية لمن يلجأون إلي القضاء للكشف عن المفسدين، أما لوكان الفساد ناتجا عن تدني الاجور فلا بد في هذه الحالة من العمل علي زيادة الأجور مع وضع عقوبات رادعة للمفسدين، وينتقل د. أحمد الي النوع الثاني من أنواع الفساد وهو الفساد السياسي ويقول:في هذا النوع يستخدم السياسي سلطاته لتحقيق أغراض خاصة لنفسه أو لعائلته وأصدقائه أو مسانديه في العمل السياسي وهذا النوع من الفساد لا تعالجه الاجراءات السابقة، ولكنه يحتاج لدرجات عالية من الشفافية والمساءلة، بحيث لا يصل للسلطة إلا الأحق بها، وأن يعاقب المفسد إذا استغل نفوذه السياسي، وبصورة عامة مواجهة هذا النوع من الفساد تتطلب قدرا أعلي من الديمقراطية هناك أيضا الفساد المنظم وهو أكثر تعقيدا ويظهر بوضوح في حالات الدول ذات الموارد البترولية والتي لا تتبني نظما تظهر بوضوح كيفية توجيه عائدات البترول، أو تسمح بالتحكم فيها من جانب فرد دون رقابة أو ضوابط، ويؤكد د.أحمد جلال أن اختيار النوع الاولي بالمواجهة وتبني الآلية المناسبة للحد منه يختلف من دولة الي أخري وفقا لطبيعة الفساد المستشري فيها ولكن بصورة عامة فإنه كلما كانت الدولة أكثر ديمقراطية وكلما تبنت مبادئ المساءلة والمحاسبة واتاحة المعلومات مع تطبيق القانون - كان الفساد فيها أقل. التحول في مصر وينتقل د. أحمد للحديث عن الوضع في مصر وكيفية التحرك فيها لمواجهة الفساد، ويقول :مصر الآن في مرحلة تحول ومكافحة الفساد لن تتأتي بأن نصدر قانونا جديدا لمحاربة الفساد أو أن ننشئ لجنة لمكافحة الفساد تتبع رئيس الجمهورية، ولا ان نضرب بيد من حديد علي يد المفسدين.. ليس هذا هو الحل فمشكلتنا الحقيقية كانت في النظام السياسي الذي كان موجودا لدينا والآن يحدث تحول في النظام السياسي لو حدث هذا التحول بشكل فيه ديمقراطية أعلي ومساءلة أعلي والمواطن فيه لديه فرصة لمحاسبة المخطئ علي اختلاف المستويات فإن هذا التحول سيكون أفضل وسيلة للحد من الفساد في مصر. ويؤكد د. أحمد أن المنافسة السياسية لا تقل أهمية عن المنافسة الاقتصادية فكلما كانت هناك منافسة بين الاحزاب المختلفة وكلما كان كل حزب يسعي لوضع برنامج يخدم الناس بصورة أفضل و الناس تعي ذلك وتختار الافضل لها - كان الحال أحسن.. المهم هو ان نبدأ في التحول للديمقراطية ونسعي لاستكمال جميع أدواتها.