ذلك التركي بطل حكايتنا كان أشبه بطاووس أبيض منفوخ منفوش ثقيل الوزن أما الشكل فكان أبهة صحيحتخيلوا لو أن حياتنا تخلو من تلك المحطات الموسمية.. الأعياد والمناسبات والاحتفاليات التي تقطع رتابة الأيام ألم يخطر لأحدكم تكون الحياة بدونها مملة وكئيبة بغير تلك الطقوس الموروثة نستعيدها بأشكال وألوان من البهجة موقوتة. ما اتعس الحياة بدون تبادل تهاني واقتران بأماني وترحيب بأحلام... تهاني، أماني ، أحلام. أسماء تجدها رائجة دوما في سجلات المواليد ! جرعة وئام وإيمان طبيب النفوس العلامة د. أحمد عكاشة يمثل لشخصي جرعة وئام وتوازن، هما عنصرا التحصين النفسي في مواجهة الحياة.. لذا عندما أستمع إليه أشعر كما لو أن أحمالا جثمت فتخففت منها وانزاحت، أو بطارية ذاتي وكادت تفرغ فأعدت شحنها.. لهذا نجد الفضائيات تتباري لاستضافته فهو ضمان مؤكد لمشاهدة عالية وبالخصوص ذلك الإقبال علي تحليله العلمي الذي يغلب عليها دوما ذلك البعد الاجتماعي - السياسي الذي أصبح يصبغ كل شئون الحياة في مصر... أبدأ أولي فقرات يومياتي في العام الجديد باستعادة لمحات مهمة من توجيهات د. عكاشة أحتفظ بها بل أحافظ علي اتباعها فهي من اهم عوامل تحصين الصحة النفسية حفاظا علي صحة النفس وهي ربما الأهم من صحة الجسم لأن النفس أو الروح هي الأصل و.. هي اللغز ! كيمياء طبيعية أودعها الخالق في المخ البشري واكتشفها العلم الحديث، إنها ما ينضح في النفوس فيهديء منها أو يبهج أو يجعلها أكثر تكيفا مع ظروف الحياة واحتمالا لتقلباتها... يطلق عليها « مبهجات طبيعية « تفرز مهدئات ربانية من خصائصها إضفاء بهجة طبيعية علي النفس تحفز علي قوة الاحتمال.. أكبر محفزاتها تتلخص في كلمتين اثنتين : الصحبة الطيبة.. ! بمعني الصداقة المحاطة بمشاعر ألفة وتفاهم وفكر مشترك.. الاستثمار في الصداقات من أهم وأولي المقومات التي ينصح بها في تقوية المناعة الطبيعية للنفس ضد الاحباط والانكفاء علي شخصك واللا مبالاة.. إياكم واللا مبالاة !! المحفزات الطبيعية هذه يقول عنها هذا الطبيب العالم إنها أشبه بمكسبات الطعم في الحياة بدون مواد صناعية لها أضرارها ! أسأله كيف نعلل النسبة العالية للانتحار في بعض المجتمعات المتقدمة جدا.. ألا تحقق لهم الرفاهية أو الرخاء والعيش في مجتمعات الرغد إشباعا متكاملا للوجود ؟ هنا يثير د. أحمد عكاشة نقطة في غاية الأهمية وهي الخواء النفسي ! الرفاهية كما ثبت من الأبحاث العلمية لا تحقق وحدها السعادة ولا التوازن النفسي والرضا وهي دعائم الصحة النفسية.. فما ينقص في هذه الحالة هو الإيمان ! لهذا يوجد توجه قوي في المجتمعات المتقدمة لاستعادة أو لإضفاء الجانب الروحي الذي أري أنه جزئية مهمة من توازن الإنسان الذي هو جسد + نفس + مجتمع +روح أما المرادف لهذا فهو الإيمان. العقيدة.. التقدم في حد ذاته بدون الجانب الروحي يؤدي لإفراغ الحياة من مضمونها.أو قيمتها فعندما تتهريء العقيدة أو يتلاشي الإيمان يطرأ خواء في النفس.. تصبح الحياة بلا معني...فالإيمان صحة نفسية وتوازن حياة. إذن يا دكتور ما قول طب النفس في المتدين بتطرف.. أعني التطرف فكرا وعقيدة إلي حد يقهر الآخرين... يقول : التطرف الشديد يعتبر موازيا للاضطراب الذهني أو العقلي. أعود لأسأل : فما رأي الطب النفسي في الفكر السلفي ؟ يقول : السلفية مضادة لاتجاه حركة الكون..الله سبحانه هو العدل والرحمة أما استبقاء السير مسري الأسلاف فهذا ضد ديناميكية الحياة.. مع ان سماحة الأديان السماوية تؤدي لتكيفها مع التطور العلمي وتقدم المجتمعات.. تتغير شكليات وتتطور أساليب السلف وإنما يبقي الجوهر في الأديان... لذا غرس الإيمان ضرورة مع الأخذ في الاعتبار بمتغيرات التطور والعلم الذي هو نتاج العقل منحة الله للإنسان. مرة أخري ما الوقاية المثلي لتحصين الأحوال النفسية للفرد ليعبر الأزمات العنيفة ؟ رأيه : أهم شيء ألا يتقوقع الإنسان حول نفسه.. عليه خصوصا في تلك الأحوال أن يكون تركيزه حول الآخرين.. بمعني المجتمع الصغير من حوله والمجتمع الكبير أيضا.. ثم يجد «المساندة « وقت الشدائد فلا يترك لحاله.. قد تأتي المساندة من صديق أو أخ أو زوج أو قريب بمعني أن يجد أذنا صاغية بتعاطف وفهم.. المساندة الأسرية أو الاجتماعية صمام أمان مضافا إلي العنصر الأساسي وهو الإيمان.... أحسب أنها جرعة مناسبة نفتتح بها يوميات العام الجديد.و كل عام وأنتم بخير. من مثل هذه الأيام : «المول» أيام من كل عام ليست مثل بقية الأيام، فاذا كانت أعيادنا في مصر تحولت إلي أعياد ما لذ وطاب، فالأعياد عند غيرنا أيضا ولائم أيضا وهدايا من الأوروبيين إلي الأمريكيين، هؤلاء بالخصوص لهم نهم بالشراء في العموم وشراء بالخصوص في مثل هذه الايام، فلا يوجد شعب متعته الرئيسية في الحياة تتجلي في عطلاتهم نهاية الأسبوع علي مدار العالم، كأن تخرج العائلة لتقضي يوما بطوله في أحد مجمعات المحال التي أسموها «المول « وانتقلت منهم إلي العالم كله ! العائلة عندهم فسحتها الأسبوعية كلها في المول، يظلون يدورون ويلفون ويشترون حتي يكادوا يقعون من طولهم.. يجوعون فيأكلون في المول، ثم يستأنفون اللف والدوران في المول، فان أرادوا الترفيه فأمامهم إحدي دور السينما في المول وحتي ينتهي اليوم بطوله في المول ناهيك عن نوبات الشراء أيام الاعياد في المول لذا يقال إن المرأة الأمريكية تقضي نصف عمرها في الشراء والنصف الثاني في التخلص مما أتي به الشراء في المول... تعبير التخلص ليس دقيقا لأنها في الواقع تعيد للمحال نصف ما اشترته وليشتريه غيرها بنصف ثمنه.. هذه هي أمريكا دون العالم، يستطيع الشاري ان يعيد البضاعة خلال شهر طالما يحتفظ بايصال المحل، بل يستعيد نقوده كاملة وبدون مناقشة ولا شكوي ولا جهاز حماية مستهلك !! لا تظنون ان البائع يضام.. أبدا الناس لا تنقطع أقدامها عن السوق والتاجر دائما هو الرابح كسبان في النهاية فتوجد مائة طريقة لتصريف البضاعة دون أن تبور.. ذاك مجتمع استهلاكي وهذا هو منطق السوق ! بلاد التناقضات..! عجيب أمر أمريكا تلك تجد شعبها من أطيب شعوب الأرض، عشري ودود ومعطاء وخدوم ويرفع التكليف زيادة عن اللزوم و.. ملعون أبو السياسة الامريكية ضعها جانبا مؤقتا فإنهم كشعب مختلف تماما ومزاياه أكبر من عيوبه... ومن يظن أن العائلة تفككت لديهم وتحللت عليه ألا يتعجل فلو عايش أعيادهم الكريسماس وعيد الشكر سيري ويدرك كيف تتحول تلك البلاد إلي حضن كبير يتسع لكل ذلك الخليط المتنافر الذي يدب علي أرضهم من كل بقاع العالم...الشوارع تكاد تقفر من السيارات. المحال التجارية تلك التي تظل مفتوحة مسروعة فاغرة فاها كل أيام الأسبوع علي مدار العام، لا تغلق أبوابها سوي يومين اثنين فقط كل عام : في يوم عيد الشكر الخميس الأخير من شهر نوفمبر وفي الكريسماس ميلاد السيد المسيح يوم 25 ديسمبر، فلا توجد عائلة أمريكية من أي وسط اجتماعي إلا ويلتئم شملها.. من الطقوس أن يأكل الامريكيون جميعا ذات اصناف الطعام التقليدية وتبدأ من ذلك (التركي) المتصدر علي كل مائدة، ذلك الديك المنفوخ الذي نسميه نحن ( بالرومي ) وعند الاوروبيين ( هندي دندي ) لكن للأمريكيين حشوهم المخصوص : خلطة ناعمة من بطاطس وتفاح مهروس ومدهوكين في صلصة توت ورشة مكسرات، أما الحلو فلابد والقرع العسلي ما قلنا هي الطقوس..! قائمة الطعام المرعية هذه تجدها علي كل مائدة في طول البلاد وعرضها من أفقر فقير لأغني أغنيائها، الفارق في مفرش المائدة وأطقم الصيني والشوك والسكاكين من الكريستوفل والفضة أم من البلاستك لا يهم ! الكنائس تفتح أبوابها ذلك اليوم بموائد مرصوصة في استقبال كل من لا يجد من يحتفل معه ويلتئم في هذه المناسبات، فلا يترك شخص بمفرده أيا ما يكون يومها فهو عيد له عندهم كما ذكرنا طقوس وتقاليد مرعية...الكنائس تفتح أبوابها بموائد ممدودة امام كل من لا ماوي له ولا أهل ولا صديق ! العفو الرئاسي عن « التركي» ! كلا ليس « أردوغان « بل هو ذلك الذي نعرفه منفوخا مكتوفا شهيا علي منتصف المائدة هو (الرومي) كما نطلق عليه و( الدندي أو الهندي) لدي الأوروبيين و(التركي) عند الانجليز والامريكيين... من طقوسهم التقليدية أن يذهب ممثلو الاتحاد القومي للديوك الرومية أقصد التركية ومعهم من يليق بتقديمه للرئيس هدية، حيث يستقبل استقبالا رسميا يليق بالديك والمناسبة الرسمية، ويسجلها الصحفيون في البيت الابيض بالصورة والصوت ! عادة ما يختار التركي أبيض اللون منفوش الريش منتفخ الأوداج ممتليء الصدر يتحرك بالكاد ويمشي ببطء لفرط ثقل الوزن والامتلاء... في حديقة الورد بالفناء الخلفي للبيت الابيض يخرج الرئيس ليلقي نظرة علي الديك ثم يعلن أنه قرر العفو عنه ويعتقه ليعود من حيث جاء... ولأن موسم الاتراك الديوك ممتد عندهم، من عيد الشكر إلي الكريسماس وبينهما شهر بالتمام، يحدث دوما أن تنشط لديهم جماعات أنصار حقوق الطيور وتحريرها من الانسان فلا يمكن ان يمر الاحتفال التقليدي بالعيد بدون مظاهرات صامتة بلا زعيق ولا ازعاج مثلهم في ذلك مثل كل التظاهرات التي تريد أن تسلم من أيدي البوليس الأمريكي الطرشة التي تجيد كيف تطول فيما يوجع من ضربات ولهذا تكتفي جبهة تحرير الطيور بحمل اللافتات التي تندد كتابة بسقوط قتلة الأتراك.. العار للمتوحشين آكلي المستأنسين إلي مثل تلك الشعارات والعبارات... أما تاريخ العفو عن التركي من قبل الرئيس الامريكي فهو مشهد متكرر كل عام وتقليد صار أقرب إلي طقوس العيد... يتقدم الاتحاد الوطني للتركي بثلاثة ديوك يختار أحدها ولابد أن يصلح كأحسن دعاية للتربية الأمريكية فهو بطل مشهد الرئيس وهو يعلن عفوه لينجو من مذبحة الأتراك التقليدية ! عموما ليست مذبحة بالمعني المفهوم بل مقصلة لقطم الرقاب.. تفرق ؟! الكوميديا الحية التي رأتها عيناي..! ذلك التركي بطل روايتنا التالية كان أشبه بطاووس أبيض منفوخ منفوش ثقيل الوزن وشكله أبهة.. لائق بصحيح ليكون أبو الريش المرشح لمقابلة الرئاسة والمعفي عنه ذلك العام علي ما أذكر كانت ربما 1996 ! في ذلك اليوم الموعود حموه ومشطوه وقلموا منقاره بالمبرد زيادة في التجميل ثم شحنوه لواشنطون متجهين به للبيت الابيض حيث مراسم الاحتفال... يومها كان الرئيس بيل كيلنتون قادما من أقاصي آسيا بعد رحلة طيران استغرقت 22 ساعة فوصل متأخرا عن الموعد بعشر دقائق، والتركي بالانتظار وحوله الحاشية ورجال البلاط والكاميرات والصحفيون وسائر المدعوين، الجمع في حديقة الورد منتظرون.. ما إن وصل الرئيس بطلعته حتي صاح أحد الحاشية معلنا قدومه : الرئيس ويليام جيفرسون كيلنتون ! هكذا صاروا ينادونه بهذا النحو التاريخي منذ فوزه بالمدة الثانية بعدما كانوا ينادونه بيل في المدة الأولي... تركي ذلك العام تربي وترعرع في مزرعة بولاية أوهايو علي أيدي أربعة من الصبية.. ولأن عم الأولاد يعرف رئيس اتحاد التركي فقد حدثه عن الديك المهول الذي يربيه أبناء أخيه فكان أن وقع عليه الاختيار ليكون أبو الريش الذي يعفي عنه ذلك العام... بدأ الاحتفال بينما التركي يبدو مرتعدا في البداية، فالجو العام غريب حوله والعيون تحدق فيه بشراهة.. بدأ يألف تدريجيا علي الجو وأخذ يتمخطر أمامنا جيئة وذهابا فوق مائدة العرض.. أخذ كيلنتون يداعبه ويمسح علي ريشه بينما هذا ينتفض فتهب ذرات الريش لتحط علي البدلة الكحلي التي يرتديها كيلنتون وفجأة.. في أقل من ثانية عملها التركي أمام الجميع، قام بفعل غير لائق علي مشهد من الحضور وخصوصا أن يحدث في حضرة الرئيس و.... بكل ثبات خلفها وراءها علي المائدة ثم استدار ومضي يمشي بتثاقل يكمل مشواره إلي طرف المائدة... كل هذا وصمت تام يلف المكان للحظة ثم.. انفجار في وصلة ضحك متواصل خصوصا كيلنتون الذي قال بأعلي الصوت : عفونا عنه مرة أخري ! هكذا اكتملت مراسم العفو التقليدي بذلك النحو غير المنتظر و.. شحنوا التركي إلي المزرعة التي جاء منها حيث بانتظاره مهام أخري.. قد لا تخطر لكم علي بال ! أما كيلنتون فقد توجه إلي كامب دافيد مع زوجته وابنته وعلي عهدة الراوي، أكلوا ديكا حجم السيارة الصغيرة، ثم لعب الجولف، وتفرج علي مباراة كرة قدم في التليفزيون، وبعدها أجهز علي ما تبقي من التركي ! أما المهام الأخري للديك الهمام الذي أعفي عنه فكانت معلومة دخلت لقاموسي الخاص عن الحياة الامريكية، فلم اكن أعرف أن تكاثر نسل الأتراك يتم لديهم في أغلب الاحوال بالتلقيح الصناعي.. فهو أسرع ويؤدي لانتاج نسل أكثر.، فاذا كانت امريكا تأكل في عيد الشكر مالا يقل عن 45 مليون تركي ومثلها في الكريسماس، يعني تقريبا بمعدل تركي لكل أربعة أفراد، إذن فالسلالة العادية من الديوك التركية لن تكفي لديهم كل العباد ! الفكرة ذاتها علمية، إنما تطبيقها أصارحكم بدائية وأغرب من الغرابة واعفوني من الشرح !! في حدائق الحيوان بأمريكا يقدمون علي مثل ذلك عندما تفشل حيلهم في تزويج النوعيات النادرة من الحيوانات كالدببة والفهود والنمور وغيرها، فيلجأون إلي طريقة التلقيح الصناعي للحصول علي نسل السلالات عزيزة المنال ولله في خلقه شؤون ! د. عبد العزيز حجازي رحيله لا يوصف بأقل من فقدان «وتد» من أوتاد رفعت في مجالاتها هذا الوطن وظلت طوال حياتها شامخة، في أحلك الاوقات التي حلت بنا في السنوات الأخيرة بقيت أشبه بالجبال لا تهزها ريح.. مجرد تواجد هؤلاء طالما استدعي فينا الإحساس بأن البلاد ما تزال بخير وأن الليل سينجلي والفجر يعقب وقد كان... أما عند رحيل أحد من هؤلاء الكبار الأفذاذ من أمثاله، أشعر وكأن إضاءة قوية في البلد وانطفأت. قوة معنوية وافتقدت... لكم أفتقد قرينته المغفورلها السيدة عصمت علام وكأنها رحلت بالأمس.. يا لهذا اللون الاستثنائي من شخصيتين بمثل تلك الصلابة والشموخ لم تجر أيهما علي الأخري في ذلك التزاوج النادر بين القوة الصلبة وقرينة من القوة الناعمة في عنفوانها معجونة بالجدعنة وببهجة الحياة... أتري الارواح تتلاقي بعد الرحيل لكم يراود مثل هذا الخاطر دوما مع رحيل الأعزاء، فما عاد أحد ليروي لنا عن يقين ماذا يحدث للأرواح لحين يوم الحساب.. قل الروح من علم ربي وحده لا سواه،