مرت بنا قبل أسابيع ذكري رحيل رائد اذاعي عال القيمة والقامة وواحد ممن كتبوا سطورا ناصعة في سجله الاذاعي عندما قدم علي مدي أحد عشر عاما كانت هي عمره امام الميكروفون أعمالا اذاعية خالدة مازالت تنعش النفوس وتذكر المستمعين بزمن جميل كانت تعيشه الاذاعة المصرية ورغم قصر سني عمله الاذاعي فقد تعددت برامجه بشكل لافت حتي انها بلغت عشرين برنامجا غنائيا قام بأخراجها مع أن تكنولوجيا الهندسة الاذاعية كانت معقدة وصعبة فأجهزة التسجيل كانت عبارة عن ماكينات ضخمة وشرائط التسجيل كانت من الصلب ويعجب الانسان كيف كان الرواد الاذاعيون الذين أخرجوا هذه البرامج يتعاملون مع هذه الأجهزة وكيف كان لديهم صبر أيوب عندما يعيدون البرنامج من أول حرف فيه إذا ما أخطأ ممثل في أدائه ولو كان هذا الاداء في آخر جملة من السيناريو هذا الرائد الاذاعي هو المرحوم عبد الوهاب يوسف صاحب الصوت الاذاعي الذي لم يتكرر حتي الآن, كان صوتا له جرس خاص يخرج من الميكروفون جميلا رائقا تعشقه الأذن منذ أول وهلة, وعبد الوهاب يوسف كان مذيعا وقاريء نشرة أخبار ومخرجا متميزا وكان صاحب أسلوب متفرد عندما يتصدي لنقل احداث اذاعة خارجية كان يتخير الكلمات التي يقولها لايتلجلج وإنما ينساب في رقة وعذوبة, والرجل لم يعمر طويلا فقد رحل وهو لم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره ان لم يكن أقل من ذلك وقد تخرج في كلية الاداب قسم اللغة الانجليزية سنة1940 وشاهده الرائد الاذاعي الأول محمد فتحي الذي وضع اللبنات الأولي للاذاعة المصرية في احدي أمسيات التمثيل التي كانت تقدمها فرق التمثيل الجامعية فأعجب به ولمح في أدائه خامة اذاعية فريدة فألحقه بعد الاختبارات بقسم المذيعين فأظهر كفاءة حققت له الظهور القوي خلف الميكروفون إضافة الي ذلك كان عبد الوهاب يوسف شاعرا وكاتب أغنيات وله عديد منها وتغني بكلماته محمد قنديل وحليم الرومي وغيرهما مثل أغنية مالي بيه وسهاري الليل والريح النادي وغيرها وكلها من تلحين علي فراج كما كان أحد ممثلي فريق الاذاعة التمثيلي الذي كان يؤدي تمثيليات اذاعية تؤديها كوكبة المذيعين والمذيعات ولكن تفرد عبد الوهاب يوسف وبروزه الإذاعي تمثل في إخراجه لعشرين برنامجا غنائيا مثل معروف الاسكافي ولحن الغروب وابن البلد وجزر هاواي ووقطر الندي وملاح النيل ونجوي الزهور والسامر والسوق ونزهة وعلي بابا وخوفو كما أخرج السيرة العطرة علي صاحبها أفضل الصلاة والسلام وقدم أوبريت ظهور الاسلام وقدم عملين من أعمال السير الأول عن الريحاني والثاني عن سيد درويش ومن مؤلفاته أغنية جميلة بعنوان يا مكحل رمشك تلحين وغناء حليم الرومي والد المطربة ماجدة الرومي وفي سنة1951 أخرج أخر اعماله وهو برنامج خوفو الذي دخل به متسابقا في مهرجان الأعمال الإذاعية في باري بأيطاليا وسافر عبد الوهاب يوسف يحمل برنامجه الذي استمعت اليه لجان التحكيم ومنحته الجائزة الثالثة وجاءتنا نحن تلاميذه أختبار فوزه فاستقبلناها بفرح كبير وترقبنا وصوله في لهفة, وعاد بالطائرة مساء وتوقعنا وصوله الي مكتبه ولكن جاء الخبر في الصباح ينعي الاذاعي الفذ ووقع الخبر علينا وقوع الصاعقة كان الراحل الكريم قد تزوج قبل سفره الي ايطاليا ببضعه شهور ولم يمهله القدر ليري وليدته التي جاءت الي الدنيا بعد رحيله كان عبد الوهاب يوسف هو الذي استقلبنا في مطالع سنة1950 ليدربنا علي العمل أمام الميكروفون وكانت لهجتي الصعيدية قد وقفت حائلا عن أن اكون مذيعا حتي أتخلص من هذه اللهجة وكان الرجل يستقبلني في مكتبه بين حين وآخر ونظل نتحاور حتي اذا لمح بوادر من اللهجة الصعيدية تخرج علي لساني كان يستوقفني ويقول لي أعد ماقلته باللهجة القاهرية وكان حريصا علي ان اكون أحد مذيعي الاذاعة ويوم أن أجتزت الامتحان الاخير ربت علي كتفي متمنيا لي النجاح كان يرحمه الله استاذا في الفنون الاذاعية ورحل وبقيت اعماله تخلد اسمه. رابط دائم :