عندما دلفت الي صالة استديوهات الاذاعة في مبني ماركوني بشارع علوي رأيته بمفرده يدخن سيجارته ومن بين عشرات الفتيات والفتيان المتقدمين لامتحان المذيعين وجدت نفسي أجلس الي جواره وشجعني وجهه الطفولي وبسمته الهادئة علي أن أدخل معه في حديث بدأته بسؤال جعله ينظر الي باستغراب شديد حيث قلت له أنت منين ياأخ ضحك قائلا إنت باين عليك صعيدي وقلت له علي الفور مش تعزم علي بسيجارة, تعجب من جرأتي وأخرج علبة سجائره وضاعفت من تعجبه عندما قلت له طب ولعلي, قال وهو يشعل لي الثقاب إنت إيه حكايتك معاي ياأخينا, ضحكنا معا ودخلنا الامتحان واحدا بعد الآخر.وكانت مفاجأة سارة انني وجدت اسمه في الأمر الاداري الذي أصدره رئيس الاذاعة صاحب العزة محمد بك قاسم قبل اسمي مباشرة وهكذا التحقنا معا بالاذاعة المصرية بتاريخ الأول من مايو سنة1950 إنه رفيق الدرب وزميل المسيرة الاذاعي المتميز والاعلامي القدير صديق العمر طاهر أبو زيد الذي رحل قبل أيام الي عالم الخلود. وعندما بدأ طاهر عمله الاذاعي كمذيع هواء يدخل الاستديو ويقدم فقرات الخريطة البرامجية ويقرأ نشرة الأخبار كنت أنا مذيعا خارج الهواء بسبب لهجتي الصعيدية التي تحتم أن اتخلص منها حتي يسمح لي بالوقوف خلف الميكروفون, كان طاهر أبو زيد عندما يراني يبتسم ويقول هذه مغبة ان تكون صعيديا ونضحك معا, ومنذ أيامنا الأولي في الاذاعة ونحن علي صلة وثيقة وصداقة متينة حيث لم نكن نفترق نحن مجموعة المذيعين عباس أحمد, صلاح زكي, طاهر أبو زيد, جلال معوض وكانت تضمنا الألفة والمحبة وجلسات نتناقش خلالها في أمور برامجنا ونصلح من أخطاء بعضنا البعض. ولقد استوعبنا جميعا لنصيحة أستاذنا بابا شارو عندما قال لنا في إحدي محاضراته إن الاذاعي الحق هو الذي يدخل مطبخ الاذاعة ليقدم للمتلقين وجبات شهية تتمثل في برامج اذاعية تفيد وتثري الوجدان وهذا ما حدث فقد تسابقنا جميعا في تقديم برامج مبتكرة لم تكن معروفة من قبل, وتوهج طاهر ابو زيد وهو يقدم درة من درر البرامج الاذاعية وهو برنامج جرب حظك حيث تفنن طاهر في تقديم شخصيات بحث عنها في تربة مصر وقدمها بصورة تظهر معدنها. لم يكن أحد يعرف شيئا عن شاعر كفر الشيخ فؤاد بدوي ولم يكن الكثيرون يعرفون زكريا الحجاوي رائد البحث عن المواهب الشعبية ولم يكن أحد يعرف أن المأمون أبوشوشة زميلنا في الاذاعة له قدرة عجيبة علي تقليد أساطين الفن مثل يوسف وهبي ونجيب الريحاني كل هؤلاء وغيرهم كثيرون أظهر طاهر ابو زيد مواهبهم وقدمهم في حلقات برنامجه وأذكر مرة قدمني فيها طاهر في برنامجه واشترط أن تكون إجاباتي علي اسئلته باللهجة الصعيدية وكم كانت الحلقة جميلة وأضفت الكثير من الضوء علي شخصي, وتميز طاهر أبو زيد بأخلاق دمثة جعلته محبوبا لدي الجميع ولعل ذلك هو الذي مكنه من ان يصل الي قلوب ابناء دائرة طلخا الانتخابية ولذلك فإنه عندما تقدم للترشيح لعضوية مجلس الأمة سنة1957 فإنه نجح باكتساح ولقد ذهبت مجموعة كبيرة من الاذاعيين الي طلخا وناصرت طاهر في معركته وكنت من بين هذه المجموعة حيث طفنا معه أنحاء الدائرة وخطبنا في جموع الناس هناك, وتميز طاهر أبو زيد بإجادة الحوار مع ضيوفه في برامجه المتعددة مثل جرب حظك ورأي الشعب والفن الشعبي. كان طاهر يجيد لغة الحوار وأدب الحوار ولو أنه وجد الآن في عصر التوك شو لتفوق علي جميع هؤلاء الذين يقدمون هذه البرامج علي مختلف الشاشات وما كان طاهر سيقاطع ضيوفه أو يتحدث اكثر من ضيوفه كما يحدث الآن ولعل برنامج رأي الشعب الذي قدمه في وقت لم تكن الكلمة متاحة كما هي الآن ولم يكن سقف الحرية قد وصل الي ما هو عليه الآن يعطي الدليل علي تميز طاهر ابو زيد في إدارة دفة الحوار مع ضيوفه, واذكر ليلة زفاف طاهر علي رفيقة حياته الاعلامية كاميليا الشنواني وكيف تجمعنا نحن زملاءه وزميلاته وكيف دعونا الفنانة تحية كاريوكا التي رقصت أمام طاهر ونحن معها جميعا نصفق علي الواحدة ولم تكن ترتدي بدلة الرقص حيث رقصت بفستان السهرة. كان ذلك لأننا فرحنا لفرحه وسعدنا لسعادته, وتميز طاهر ابو زيد وهو يدير العمل رئيسا لاذاعة الشرق الأوسط وكيف كانت هذه الاذاعة في عهد رئاسته لها غزيرة التوهج دائمة التألق حتي إن هذا التوهج جعل اذاعة مونت كارلو تتعاقد معه ليشرف عليها ويديرها فترة من الزمن, طاهر أبو زيد صاحب أسبوعيات طاهر أبو زيد البرنامج الذي ظل يبثه سنوات عديدة عبر أثير البرنامج العام قدم فيه نموذجا رائعا لما يجب أن تكون عليه برامج الحكي وسرد الذكريات وكان طاهر معلما في فنون الالقاء الاذاعي واستاذا لاجيال إذاعية نهلوا منه أصول اللغة العربية فهو لاحظ طاهر ان هناك اعوجاجا في النطق وخرقا لقواعد النحو والصرف فكانت برامجه نبرات يحتذي بها في تصحيح المعوج وتقويم اللسان وتعويده علي الأداء المتميز. وضرورة احترام لغة الضاد. ولن أنسي ما حييت البرقية التي أرسلها لي يعزيني في مصابي الذي رزئت به قبل سنوات عندما فقدت ابني البكر حيث كان توقيع طاهر علي برقيته في كلمتين وهما طاهر الحزين وأنا الآن إذ أودعك ياصديق العمر اقول لك انني كتبت هذه الكلمات وأنا جد حزين وقلبي مكلوم يرحمك الله.