«زي النهارده» في 10 أكتوبر 2009 .. وفاة الدكتور محمد السيد سعيد    انخفاض كبير في عيار 21 بالمصنعية.. مفاجأة ب أسعار الذهب والسبائك اليوم الجمعة بالصاغة    سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025    وزير العدل الفلسطيني: سنطلق اسم مصر على أكبر ميادين غزة.. والسلطة جاهزة لتسلم إدارة قطاع غزة    الحكومة الإسرائيلية تصدق على قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة    خليل الحية: غزة تصنع المعجزات وتؤكد أنها محرمة على أعدائها    إجراء عقابي محتمل من ترامب ضد النرويج حال عدم منحه نوبل للسلام وصحيفة تكشف ما يحدث    «أي هبد».. وليد صلاح الدين يهاجم نجمًا شهيرًا: «ناس عايزة تسترزق»    بمشاركة دغموم.. الجزائر المحلي ينتصر على فلسطين بثلاثية وديا    تفاصيل جلسة لبيب مع فيريرا وجون إدوارد    وليد صلاح: داري لا يعاني من إصابة مزمنة.. وهذا موقف عاشور وفؤاد وشكري    غرقت في ثوان، 13 صورة ترصد كسح مياه الأمطار من شوارع وميادين العجمي بالإسكندرية    بسبب محل.. التحقيق مع مسؤول بحي العمرانية لتلقيه رشوة من أحد الجزارين    طقس مائل للحرارة نهارًا ومعتدل ليلًا.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الجو اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025 في مصر    تحويلات مرورية لتنفيذ أعمال إنشائية خاصة بمشروع المونوريل بالجيزة    ما بيحبوش الزحمة.. 4 أبراج بتكره الدوشة والصوت العالي    «كان نعم الزوج».. هناء الشوربجي تتحدث عن قصة حبها بالمخرج حسن عفيفي    ما تكتمش العطسة.. تحذير طبي من عادة خطيرة تسبب أضرار للدماغ والأذن    «هتكسبي منها دهب».. إزاي تعمل مشروع الشموع المعطرة في البيت؟    4 أعشاب سحرية تريح القولون وتعيد لجهازك الهضمي توازنه الطبيعي بشكل آمن    حبس ديلر المخدرات وزبائنه في المنيرة الغربية بتهمة حيازة مخدر البودر    اليوم، انطلاق انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء    استدعاء كريم العراقي لمعسكر منتخب مصر الثاني بالمغرب استعدادًا لكأس العرب    حماس: حصلنا على الضمانات.. والحرب انتهت بشكل كامل    التاريخ ويقترب من تحطيم رقم حسام حسن.. فيديو    تفاصيل جلسة حسين لبيب مع يانيك فيريرا فى الزمالك بحضور جون إدوارد    السيسي يُحمّل الشعب «العَوَر».. ومراقبون: إعادة الهيكلة مشروع التفافٍ جديد لتبرير الفشل    رسميًا.. موعد بداية فصل الشتاء 2025 في مصر وانخفاض درجات الحرارة (تفاصيل)    متى يتم تحديد سعر البنزين فى مصر؟.. القرار المنتظر    منتخب المغرب يهزم البحرين بصعوبة وديا (فيديو)    وزير الخارجية الإيطالى يشكر مصر والوسطاء على جهود التوصل لاتفاق سلام فى غزة    النيابة تصدر قرارًا ضد سائق وعامل بتهمة هتك عرض طالب وتصويره في الجيزة    الأرصاد الجوية تكشف تفاصيل طقس الجمعة 10 أكتوبر وأماكن سقوط الأمطار    تراجع حاد للذهب العالمي بسبب عمليات جني الأرباح    رئيس فولكس فاجن: حظر محركات الاحتراق في 2035 غير واقعي    أسامة السعيد ل إكسترا نيوز: اتفاق شرم الشيخ إنجاز تاريخي أجهض مخطط التهجير ومصر تتطلع لحل مستدام    اتحاد كتاب مصر ينعى الناقد والمؤرخ المسرحي عمرو دوارة    محافظ شمال سيناء: اتفاق وقف الحرب لحظة تاريخية ومستشفياتنا جاهزة منذ 7 أكتوبر    "كارمن" تعود إلى مسرح الطليعة بعد 103 ليلة من النجاح الجماهيري.. صور    كريم فهمي يكشف حقيقية اعتذاره عن مسلسل ياسمين عبد العزيز في رمضان 2026    كيف يحافظ المسلم على صلاته مع ضغط العمل؟.. أمين الفتوى يجيب    موعد أول أيام شهر رمضان 2026 فى مصر والدول العربية فلكيا    انخفاض جديد في البتلو والكندوز، أسعار اللحوم اليوم بالأسواق    وصول عدد مرشحى النظام الفردى لإنتخابات مجلس النواب الى 1733 شخصًا    أوقاف الفيوم تعقد 150 ندوة علمية في "مجالس الذاكرين" على مستوى المحافظة.. صور    عشان تحافظي عليها.. طريقة تنظيف المكواة من الرواسب    مباشر مباراة المغرب ضد كوريا الجنوبية الآن في كأس العالم للشباب 2025    روسيا ترحب باتفاق "حماس" وإسرائيل وتشيد بجهود الوسطاء: نأمل بوقف دائم لإطلاق النار    نقابة أطباء الأسنان بالدقهلية توضح ملابسات وفاة شاب داخل عيادة أسنان بالمنصورة    سعر الموز والتفاح والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025    داليا عبد الرحيم تهنيء الزميلة أميرة الرفاعي لحصولها على درجة الماجستير    أميرة أديب ترد على الانتقادات: «جالي اكتئاب وفكرت أسيب الفن وأتستت»    نصائح للأمهات، طرق المذاكرة بهدوء لابنك العنيد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 9-10-2025 في محافظة الأقصر    بيت الزكاة والصدقات يثمّن جهود الوساطة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة    الثلاثاء المقبل.. أولى جلسات اللجنة الرئيسية لتطوير الإعلام بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب    كوارث يومية فى زمن الانقلاب…حريق محل مراتب بالموسكي ومصرع أمين شرطة فى حادث بسوهاج    دينا أبو الخير: قذف المحصنات جريمة عظيمة يعاقب عليها الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليست مرآة واحدة
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 12 - 2010

تبكي مروة بفعل انسحاق روحها بين محاولات فاشلة لتحقيق الذات وعائلة أصبحت أكثر تشددًا في موقفها من عمل ابنتهم وإقامتها بعيدًا عن ناظرهم، تخترق دمعاتها كتف بيجامتي وتصل إلي جلدي، تذكِّرني أنفاسها المختنقة بفعل البكاء بأنفاسي اللاهثة وقت أن وقفت أمام مرآة حمام المدينة الجامعية العريضة لأسأل نفسي »ماذا بعد؟«، حينها سيطر عليّ إحساس طاغٍ بأن التلاشي في أجساد الآخرين قدر مكتوب لا مفر منه، التلاشي في جسد العائلة الضخم والتلاشي في جسد أسرة ابنة خالي التي استضافتني شهور دراستي الأولي، والتلاشي في جسد بيت المغتربات ثم التلاشي في جسد المدينة الجامعية الأضخم، بنات من كل صوب وحدَب تتجاور أجسادهن وتتلاحم أنفاسهن.
لجأت إلي المرآة حينما أردت الانفجار في البكاء والصراخ ولم أجد مكانًا مناسبًا، الغرفة بها خمس فتيات غيري يمارسن تفاصيل حياتهن، وفراشي تسكن فتاة متفوقة الدور العلوي منه ولا تنزل إلا وقت الأكل أو الصلاة، وفي بهو المبني حصيرة مفروشة تستلقي عليها الفتيات إما مستذكرات لدروسهن وإما قارئات للقرآن، وفي الجنينة المقابلة للمبني تجلس أخريات متقاربات يحكين حكاياتهن الصغيرة أو يبثثن أحزانهن واشتياقهن إلي أُسَرِهن وأحبَّائهن، تجاورهن العاملات في أوقات راحتهن التي تمتد في الزمن بلا عوائق.
شعرت بقرب الانفجار، فهرولت مسرعة نحو المرآة وأغلقت باب الحمام الخارجي علي أربعة حمامات صغيرة وأربعة أخري مخصصة للاستحمام، وقفت أبكي كطفلة فقدت أمها في سوق كبيرة، وكنت حينها قد فقدت أول من أحببت بالفعل، لكن الباب الكبير انفتح بقوة أصابتني بالرعشة، وانزلقَت منه خمس فتيات مدفوعات بقوة الغضب وطول الانتظار ووجع أيديهن من الطرق علي الباب، صِحْن فيّ بصوت واحد، مطيِّرات أيديَهن في الهواء، وحينما اقتربن ورأين سيل الدمعات واحمرار العينين، تبدلت ملامحهن وصارت أقرب إلي الشفقة.

في المدينة الجامعية لا تتردد كلمات »تخصني«، »بتاعتي«، »وحدي«... هناك الحياة في صورتها البدائية، حيث المشاع، مجتمع صغير يعلم كل صغيرة وكبيرة تدور فيه، إذا لم تصلِّ صلاة الفجر يسألونك صباح اليوم التالي عن سبب التغيُّب، وإذا لم تسُقْ أسبابًا مقنعة داعية إلي التعاطف تتبدل بالكلمات أخري معاتبة، وإذا صنعت أكلة بسيطة كالفول بالطماطم، تجد كل بنات »الدور« عندك يمددن أيديهن بالأطباق إلي فولك الذي أصبح فولهن سواء بسواء.
في المدينة الجامعية يعلم الجميع متي تنام، كيف تنام، متي تصحو، متي تدخل الحمام، متي تأتيك الدورة الشهرية، متي تنقطع، مَن تصادق، مَن تعادي، كم من الوقت تستذكر دروسك، مع من تتحدث وفي أي موضوع، هناك يعلمن عدد قطع ملابسك الداخلية، مقاسها، كم من الأموال تنفق وكم تدخر، أسباب بكائك وأسباب فرحتك.
في المدينة الجامعية، لا مكان للخلوة، وحينما اختلت إحدي الفتيات بنفسها مدفوعة بحب الاكتشاف والتجريب، فضحوها، فضحتها زميلة الغرفة التي عادت بعدما قررت في آخر لحظة تأجيل سفرها إلي الإقليم الذي تنتمي إليه، أدارت المفتاح في الباب لتجد زميلتها غافية علي الأرض بعد لحظات من التوصُّل الذاتي إلي اللذة، لم تستطع كتم صرختها، فتجمعت عشرات الفتيات ومعهن العاملات والمشرفات علي المبني. قامت الفتاة من غفوتها مذعورة من أعيُنهن المحمرّة بفعل الغضب ومن صراخ المشرفات المدوي، لم يمنحنها فرصة لترتدي ملابسها، أردنها عارية، ليكون عريها دليلاً قاطعًا علي فعلتها الشنعاء، لكنهن كُنَّ رحيمات، تركنها تقضي ليلتها وسط أيدٍ وألسنة متحفزة، علي أن تغادر المدينة الجامعية إلي الأبد.

في المساحة الواسعة الممتدة بين غرف الفتيات والحمام والمطبخ انبسطت »حصيرة« من البلاستيك تآكلت أطرافها بفعل تعاقب الأجساد عليها، أسْمَوها المسجد، دون أن تمتّ إلي خصائص المساجد بصلة، عليها ذاكرنا دروسنا، واضطجعنا نستقبل نسمات الفجر الباردة القادمة من الباب الكبير، وعليها أدينا صلواتنا الخمس وصلوات أخري زائدة، وعليها جلسنا في حلقة نفتح أدمغتنا لكلمات منسابة من فتيات تقاربننا عمرًا لكنهن يختلفن عنا هيئة، فتيات متشحات بالسواد ومسدلات.
كان هروبنا من المشرفة علي المبني هو الجهاد بعينه، تطاردنا بمقولتها »دي بنات زيكم ماينفعش يفتوا في الدين«، ويزيدنا تفريقها لنا انغماسا في الحلقات الدينية كوسيلة نتحدي بها السلطة، كما أحببناها لأنها كانت تهدينا إلي الصراط المستقيم.
هناك أرشدونا إلي الصدقة وحب الأهل، هناك نصحونا باللبس الواسع وارتداء الخمار، هناك حذّرونا من الكلام مع الفتية أو النظر إلي الدكتور، هناك طلبوا منا أن نسرع في السير لنستبق الفتيات المسيحيات السائرات في الشارع، هناك تصارع الإسدال والنقاب والسلف مع السنة، هناك غضبت الفتاة المنتقبة حينما استوضحت منها إحدي الجالسات عن الأسباب التي دعت المسلمين إلي قتل الخلفاء الراشدين، أو التي دفعت زوجة الرسول إلي المشاركة في حادثة الفتنة.
وهناك، وفي نفس الوقت، في تلك الدورة التدريبية، أرشدونا إلي حب الآخرين، قبول المختلفين عنا، بسطوا أمامنا حقوقنا وواجباتنا، حقوق المحتاجين والمنبوذين والمضطهَدين والنازحين والهاربين، حقوق المرأة والطفل والمواطن، حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمجانين، هناك قابلت السوداني والمغربي والسوري والألماني، قابلت الملحد والمتدين، الأسود والأبيض، كنا نحضر المحاضرات معًا، نأكل معًا، نشرب معًا، ونخرج معًا.
وما بين الهناك والهناك فقدت البوصلة وصفاء التفكير، بدت الأمور متداخلة ومتعارضة، فكانت الغلبة لدروس المنتقبات الدينية، ارتديت العباءات وأنزلت الإيشارب إلي ما تحت الأرداف التي اختزلت بفعل هجوم التفكير، وقطعت علاقتي بالأولاد.
والولد، رامز، يرمقني من بعيد بحزن يكاد يلسع وجهي، حزن محيّر لا شاطئ له، فلا نحن شديدا الصداقة ولا متحابان، كلما التفتّ وجدته ينظر نحوي وشفاهه تتحرك بكلمات أدقق بعيني لأتبينها، ولا شيء أكثر.
وهناك علي سُلّم الكلية وعلي كتف صديقة، أرتجف من دمعات تنزل بسخاء من عينين تنظران نحوي.
ظللنا عامًا دراسيًّا كاملاً نتبادل النظرات ولا مكان للجرأة بيننا، وهناك في ذلك الشارع خافت الضوء المحاذي لسور الجامعة قابلته، كنا قد تَخرَّجنا منذ عام، تسمرت في مكاني وفتحت فمي دهشةً وفرحة بلقائه، فتح هو الآخر فمه وتسمر في مكانه منصعقًا من ابتسامتي التي قابلَته، تَقدَّم نحوي بخطي مضطربة وعينين متشككتين، ثم ذاب كل شيء بفعل حميمية اللقاء. وقفنا متقابلَين يبثُّ كل واحد منا ما لديه، سألته عن سبب الحزن والدمعات، وسألني عن سبب الانقطاع عن التواصل معه، قال: »أنا اتخلقت لقيت نفسي بالدين ده، إنتي أذيتيني قوي خليتيني أبكي كل يوم قبل ما أنام واسأل نفسي وأصحابي أنا إيه ذنبي!«، يتحدث وتتزايد عقدة جبيني مستوضحة، ففتح يديه وقال: »ألم تخاصميني لأني مسيحي؟«، قال ذلك فكدت أقع علي الأرض من شدة الضحك، ومن بين شهقاتي رأيت ضيقه واستنكاره فأخبرته عن المدينة الجامعية، الدروس الدينية، وحرمانية الحديث مع الرجال، حقوق الإنسان وغيرها.
وحكينا في أمور أخري وموضوعات تتعلق بمستقبلنا، واسترجعنا واقعة اكتشافنا لحقيقة دينه، حينما طلبت منه زميلة لنا جاءت من قرية خالية من المسيحيين لكنها مفعمة بالمقولات الجاهزة عنهم - أن يمنحها كشكوله لتستكمل ما فاتها من محاضرات، حينها اعتذر رامز بأدب وأشار عليها بالاستعانة بكشكول ميرا، لكن الزميلة قالت له: »لأ يا اخويا، ماخدش حاجة أبدا من المسيحية دي«، فاكتشف أنها تعامله علي أنه واحد من أبناء دينها، وحينما أخبرها بالحقيقة جاءتني مسرعة، تتعثر في »بنشات« المدرج، ولم نصدق إلا حينما أخرج بطاقته الشخصية.
أوصلني رامز إلي أقرب شارع مؤدٍّ إلي البيت وتركني دون أن يأخذ معه حكايته المؤلمة التي كنت أنا سببا أساسيا فيها، تركني أتذكر في ابتسام ممزوج بالألم أول قطرتين من الدماء تساقطتا مني مبكرًا، فدفعتا أمي إلي تحريم حديثي مع الأولاد، وأتذكر ملامحها المتفجرة بفعل الغضب من تأخري عن موعد العودة إلي البيت بنصف ساعة، حينها كانت القرية ملتهبة لحادثة مقتل إحدي الفتيات علي يد أخيها وأبيها، وتركني أداري ابتسامة واسعة شكّكت أحد المارة في قدراتي العقلية حينما تذكرت قطعة القماش التي سقطت من بين فخذَيَّ في »الطرقة« الفاصلة بين »تخت« الفصل، حينها نظر المدرس باستغراب إلي ذلك الشيء الذي خرج مني مُحدِثًا صوتًا بارتطامه بالأرض، وبسرعة البرق أدار وجهه المحمر ناحية »السبورة« مستكملا كلماته المتقطعة، وكان قبلها "مندهشًا" من طريقة مشيتي التي التصقت فيها ركبتاي أكثر من الأول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.