«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشرف الصباغ يكتب:ضباط قيرغيزيا ألقوا بجواز سفري المصري على الأرض
نشر في الدستور الأصلي يوم 25 - 06 - 2010

ضباط قيرغيزيا ألقوا بجواز سفري المصري علي الأرض في المطار وقالوا «الأتراك وحدهم يدخلون دون تأشيرات»
كبير الضباط أمرهم بمرافقتي إلي الطابق الثالث بمطار«ماناس» في العاصمة «بشكيك» حيث مقر احتجاز المخالفين ومن يلزم ترحيلهم فوراً
رحت أحصي عدد الطائرات الأمريكية من خلف الزجاج والتي لم يتغير عددها عن العام الماضي في عهد النظام الذي أطيح به منذ عدة أسابيع
مظاهرات الغضب فى قيرغيزيا
جلست في الطائرة المتجهة من العاصمة القيرغيزية«بشكيك» إلي موسكو في السادسة والنصف صباحاً شبه مطرود من قيرغيزيا..أربع وعشرون ساعة كانت كافية لاكتشاف كابوس كبير مواز للأزمة القيرغيزية المشتعلة. فالطائرة انطلقت من موسكو في الساعة الثامنة وعشرين دقيقة صباحاً بالتوقيت المحلي. وفي الساعة الثانية والنصف بعد ظهر اليوم نفسه بتوقيت «بشكيك» وصلنا إلي مطار «ماناس» الذي تقبع فيه طائرات النقل الأمريكية السوداء الضخمة.. هناك طائرات مدنية روسية وأوزبكية وتركية أخري، ولكنها إما طائرات ركاب أو طائرات حملت مساعدات إنسانية وستغادر حالاً. هذا المطار الذي أصبح «قاعدة ماناس الجوية الأمريكية» يتميز بتواضعه الكبير لدرجة أنه يشبه مواقف الباصات من حيث الحجم والحركة والتنظيم والمظهر عموماً.
اصطف طابوران. الأول لمواطني قيرغيزيا والثاني للأجانب. وغالبية الأجانب يدخلون قيرغيزيا دون تأشيرات أو يحصلون عليها في المطار. من خبرتي السابقة، توجهت إلي مكتب القنصل الذي لا يبعد كثيرا عن الطابورين. كان مغلقا ومظلما. سألت أحد موظفي حرس الحدود الذي كان يتحرك دون هدف في الصالة الصغيرة الضيقة. قال: «دق عليه، إنه نائم بالداخل». استيقظ الرجل بعد دقتين أو ثلاث. فتح نافذة صغيرة وهو يفرك عينيه. بمجرد أن رأي جواز السفر المصري، قال: «الأتراك يدخلون دون تأشيرات». وقبل أن يغلقها قلت له: «هذا جواز سفر مصري، وأنا أقيم في روسيا». تناول الجواز، تصفحه، ألقاه بامتعاض:
- ليس لديك تأشيرة. ولن تدخل البلاد دونها.
- نعم. أريد تأشيرة.
- التأشيرة من سفارتنا في موسكو، أو بدعوة من هنا.
- لم نتمكن من استخراجها، لأننا جئنا علي وجه السرعة بسبب الأحداث الجارية عندكم. واليوم جمعة كما تعرفون. وغدا السبت وبعد غد الأحد عطلة نهاية الأسبوع.
- هذا لا يخصني. يجب أن تحترموا القانون.
- طبعا، نحترم القانون. ولكن ظروف العمل الصحفي والأحداث المشتعلة..
انغلقت النافذة في وجهي. اقترب زملائي - المصورون الروس - مندهشين. ففي العام الماضي حصلت علي تأشيرة دخول من هذا المكتب نفسه مقابل 60 يورو في ظروف مشابهة تقريبا أثناء انتخابات الرئاسة القيرغيزية وما أحاط بها من مشاكل واحتكاكات بين قوي المعارضة والحزب الحاكم.
في هذه اللحظات لمحت بعض الأشخاص العاملين في المطار بزيهم الرسمي يدورون حولنا في محاولة للوقوف علي آخر تطورات الموقف. اقترب أحدهم:
- هل حصلت علي تأشيرة؟
- لا.
أشار إلي دورة المياه:
- تعال معي.
تبعته وسط ابتسامات الزملاء. في الداخل طلب 50 دولاراً مقابل وضع التأشيرة علي الجواز. وضعت ما يعادلها بالروبل الروسي في جواز السفر وخرجنا. توجه إلي أول ضابط. ثم إلي الثاني والثالث. عاد إليَّ مطاطئ الرأس وأعطاني الجواز:
- صعب. ولكن ألن تترك لي النقود؟
- المهم أن تساعدني في الخروج من هنا!
- سأظل معك. سأحاول. ولكن اترك لي بعض النقود. حاول مرة أخري مع القنصل.
توجهت إلي القنصل الذي نظر إلي بامتعاض وتحد:
- لن تخرج من هنا. ستعود إلي موسكو. لن أمنحك التأشيرة حتي ولو تلقيت أمراً من رؤسائي.
خرج زملائي علي أمل أن ألحق بهم بعد ساعة أو اثنتين. أصبحت وحيداً في الصالة مع الموظفين والضباط الذين راحوا يتناقلون جواز سفري بينهم. وفجأة انفضوا من حولي بمجرد ظهور شخص يبدو من زيه أنه رئيس الوردية. لم يختلف الحديث معه عما دار مع سابقيه. وفي النهاية أخذ جواز سفري وقال إن الطائرة التي أتيت علي متنها سوف تغادر بشكيك إلي موسكو بعد نصف ساعة وسيعيدوني عليها. طلبت منه راجيا أن يؤجل ذلك، لأنني سأجري بعض الاتصالات وسنحل المشكلة. ابتسم وهز كتفيه. نظر إلي نفس الموظف الذي وعدني بالمساعدة. غمز له قائلا:
- خذه إلي الطابق الثالث.
والطابق الثالث عبارة عن صالة واسعة نسبيا كانت في السابق مطعما وبارا للمسافرين وتحولت، علي ما يبدو، إلي مكان لاحتجاز المخالفين. سار الموظف معي وهو في غاية الأسف. كان كل ما يهمه ألا أخبر أحدا عن النقود التي أعطيته إياها:
- لم أكن أعرف أنك صحفي. أرجوك، لا تخبر أحدا. سيطردوني من عملي.
ابتسمتُ وهدأت من توتره ببعض العبارات التقليدية.
أشار لي بالتوجه إلي واجهة زجاجية تطل مباشرة علي أرض المطار. صرنا خلف عمود خرساني ضخم يخفينا عن العيون داخل الصالة. أشعل كل منا سيجارته وبدأ الحديث:
ألا تحتاج إلي مياه أو أكل؟
لا. شكرا.
سأذهب الآن لأتناول غدائي بجزء من النقود التي منحتني إياها. وسأبقي الجزء الثاني للبيت. رواتبنا قليلة هنا. والمشاكل كثيرة. أرجو أن تسامحني. هل أنت نادم علي إعطائي هذه النقود؟
كانت الساعة تقارب الخامسة مساء بالتوقيت المحلي. المكالمات الهاتفية المتوالية من موسكو أو من الزملاء الذين يبحثون عن فندق الآن في العاصمة «بشكيك» تقطع حديثنا بين الحين والآخر. أقوم من طرفي بإجراء بعض المكالمات لعل وعسي. تركني الموظف فجأة ودون سابق إنذار. نهضت نحو الواجهة الزجاجية نظرت إلي أرض المطار والجبال البعيدة من خلفها. رحت أحصي عدد الطائرات الأمريكية. لم يتغير عددها عن العام الماضي في عهد النظام الذي أطيح به منذ عدة أسابيع.
عندما دخلت إلي تلك الصالة كان هناك شاب مستغرق في النوم علي مقعدين متلاصقين، وفتاة نائمة أيضا في الجهة الأخري. بدا أنهما هنا منذ يوم أو اثنين لأن طريقة النوم والحقائب وزجاجات المياه البلاستيكية المتناثرة هنا وهناك تعكس حالة من الاعتياد والتأقلم. بعد قليل دخل رجل يتراوح عمره بين الخامسة والستين والسبعين عاما خلف أحد الموظفين وهو يتحدث بلغة غير مفهومة تنم عن عدم الرضا. خاطبه الجنديان بلغة روسية ركيكة، فرد عليهما بروسية أكثر ركاكة. اتضح أنه يحمل جواز سفر روسياً مكتوباً فيه أنه دون جنسية. وبالتالي لم يسمحوا له بدخول قيرغيزيا. وسيعيدونه إلي موسكو علي طائرة الغد أو بعد غد. بعد قليل تصالح مع الأمور وجلس مقرفصاً بعينين جاحظتين يائستين ماسكاً رأسه بين يديه. لاحظت أنه كان يبكي دون دموع، أو هكذا خيل لي عندما سمعت صوت أنفاسه المتلاحقة والأنين المكتوم الصادر من بين فكيه المرتجفتين. كان من المقرر أن نصل إلي بشكيك، ثم نتجه مباشرة إلي الجنوب لتغطية ما يجري في مدينة «أوش» التي كانت ساحة للاشتباكات العرقية العنيفة طوال الأيام الأخيرة بين القيرغيز والأقلية الأوزبكية هناك، ما أسفر عن مقتل 200 شخص وإصابة 2000 آخرين بجروح. إضافة إلي تضرر حوالي مليون نسمة آخرين بينهم أكثر من 300 ألف لاجئ في قيرغيزيا نفسها وعلي الحدود مع أوزبكستان. في هذا الوقت بالذات كانت القائمة بأعمال الرئيس القيرغيزي تدلي بتصريحات نارية من «أوش» مطالبة روسيا بالتدخل، وداعية الولايات المتحدة بتسليم ابن الرئيس المخلوع إلي السلطات القيرغيزية لمحاكمته بتهمة التخريب والتآمر وإثارة الفتنة. اتصلت بي إحدي الإذاعات العربية للحصول علي تقرير حول ما يجري. تبادلت النكات مع الزميل علي الطرف الثاني من الهاتف، واصفاً له حالتي. فقال: «إذن، وافنا بتقرير عن وضعك المأساوي، وهل تحتاج إلي مساعدات دولية؟».
بعد قليل نهض الشاب الذي كان نائماً علي مقعدين. فتح لفافة وراح يتناول طعاما ما وبين الحين والآخر يشرب جرعة ماء من زجاجة بلاستيكية ضخمة وهو يركز بصره عبر الواجهة الزجاجية إلي نقطة غير محددة في الفراغ. صدر صوت تأوه ونشيج من ناحية الفتاة التي كانت ما تزال مستلقية. استمر الوضع كما هو عليه لساعة أو أكثر قليلا. كنتُ مشغولاً بالاتصالات والرد علي الهاتف بين الحين والآخر. الزملاء في موسكو يطمئنونني، والزملاء في الفندق يجرون اتصالاتهم. لكن خبرتي بالنصف الثاني من يوم الجمعة الذي يعقبه يومان عطلة أكدت لي أنني سأقضي الليلة هنا في هذه الصالة الكئيبة المظلمة التي تطل علي أرض مطار «ماناس» الذي أصبح مخيفاً مع حلول الظلام حيث تحولت الطائرات الأمريكية السوداء تحت كشافات الضوء الأصفر القوية إلي أشباح.
فجأة أقبل جنديان في بطء وكسل شديدين. اتجه أحدهما إلي الشاب وخاطبه بالقيرغيزية. نظر إليه بعينين زائغتين تعبيراً عن الإرهاق والضيق وعدم الفهم. أعاد ما قال بالروسية. لم يفهم الشاب أيضا. في نهاية الأمر، أشار له بأن يجمع حقائبه ويسير خلفه. كان الجندي الثاني يحاول أن يوضح شيئا للفتاة التي كانت تفرك عينيها وتمسح دموعها في آن واحد. اتجه الشاب نحو الفتاة. قال لها شيئا بلغة لا نعرفها. نهضت واحتضنته بقوة. راحا يجمعان حقائبهما الكثيرة التي بدت ثقيلة من طريقة تحريكها. بدون كلمات كثيرة اتجه الجنديان نحو الباب المؤدي إلي درج يهبط إلي الدور الثاني حيث قاعة السفر الضيقة الكئيبة وخلفهما الشاب والفتاة اللذان يكاد جسداهما يئنان تحت الأحمال الثقيلة. بقي فقط منهما، في الصالة التي تكاد تكون مظلمة تماما، نظرات الشاب المشفقة علي رفيقته، وصوت بكائها المكتوم. في هذه الأثناء كان الرجل العجوز يتجول بعشوائية في الصالة وكأنه طفل يلهو باحتساب عدد المقاعد، ثم الصفوف، والقفز من صف إلي آخر. بينما خلع كل من الجنديين الحارسين حذاءه وفك أزرار قميصه الصيفي واستلقي علي المقعد في راحة واسترخاء كاملين.
خلت صالة السفر من المسافرين. هدأت أرض المطار تماماً. منذ حوالي ساعة وصلت طائرة أوزبكية وأنزلوا منها بعض الصناديق. يبدو أنها كانت الأخيرة. بين الحين والآخر كانت تقلع إحدي الطائرات الأمريكية، وبعد قليل تهبط أخري بحيث يظل عددها علي أرض المطار 12 طائرة بالتمام والكمال. أذكر أنني أحصيتها في العام الماضي وكان نفس العدد. هذه الطائرات توجد في هذه القاعدة وفقاً لاتفاقية بين الحكومتين القيرغيزية والأمريكية. جرت في النهر مياه كثيرة عكرته بين بشكيك وواشنطن بسبب هذه القاعدة. فتارة تطالب الحكومة القيرغيزية بزيادة إيجار القاعدة، وتارة تعلن أنها ستطرد الأمريكيين، وتارة ثالثة تؤكد أنها تدعم قوات التحالف في أفغانستان ولذلك ستبقي علي القاعدة الأمريكية. منذ عام 2005 تغير ثلاثة رؤساء عن طريق الثورات الملونة والانقلابات والإطاحات والتصريحات كما هي. لا أحد يتحدث عن قاعدة «قانت» العسكرية الروسية. الحديث يدور دائما وأبدا عن القاعدة الأمريكية وتحصيل أكبر قدر من الأموال. حتي الصراع بين ما يسمي بقوي المعارضة القيرغيزية إما بتفادي الحديث عن هاتين القاعدتين، أو تصدر تصريحات مطاطة لا يمكن أن يفهم منها أي شيء محدد، أو يتم الاتجار بإحدي القاعدتين من أجل الدعم الروسي أو الأمريكي لهذه القوة أو تلك من قوي المعارضة التي تتصارع ليس إطلاقاً من أجل المصالح العليا للبلاد بقدر ما تتطاحن لتقسيم مناطق النفوذ والسيطرة علي المناطق. الفرق شاسع بين الشمال الذي يطلقون عليه «المتحضر« و«المتطور« وبين الجنوب الذي يصفونه بالتخلف. وقيرغيزيا مليئة بالقوميات والديانات. وغالبية سكانها يحملون جوازات سفر روسية. كل منطقة في قيرغيزيا تعاني من مشاكل الفقر والبطالة والفساد. المافيا تسيطر علي كل مقدرات البلاد ولا يمكن أن نفصل هذه المافيا عن رجال الأعمال الذين هم أصلاً زعماء القوي السياسية المتصارعة.
جلست مقرفصاً في وضع يشبه وضع الرجل العجوز، وبنتيجة الظلام التام في الصالة التي أصبحت أشبه بالبيوت القديمة في أفلام الرعب الأمريكية، لم أتمكن من رصد نظراتي أو حتي سماع صوت أنفاسي كل ما كنت أسمعه هو صوت أفكاري المتلاطمة حول فشلي في تغطية أحداث «أوش» وما يجري هناك، فجأة وجدت الموظف الذي وعدني بالمساعدة يجلس أمامي بابتسامة لزجة كشفت عن أسنانه الفضية التي لم ألحظها في ضوء النهار. قال:
- هات نقود لأشتري لك طعام ومياه
- لا. لا أريد أي أكل أو شرب
ابتسم في خبث:
- أين تعمل في موسكو
ناولته هويَّاتي التي تتضمن كل ما يمكن أن يسأل عنه بخصوص عملي أو إقامتي. سلط عليها ضوء كشافه الذي يحمله معه أخذ يقرأ في اهتمام بالغ، وأعادها إليَّ وهو يمصمص شفتيه، وقال:
- أنهيت معهد حرس الحدود في كازاخستان، وأود السفر إلي موسكو لإكمال تعليمي والالتحاق بجهاز الأمن الفيدرالي.
- أي جهاز أمن فيدرالي؟ الروسي أم القيرغيزي؟
لم يرد، بل واصل حديثه وكأنه يكلم نفسه:
- الأحداث كثيرة هنا ولا تعطينا مجالاً للحياة مشاكل كثيرة ورواتب لا تغني أو تسمن من جوع لا أدري كيف سنربي الأولاد. أعتقد أننا أصبحنا أصدقاء. هل هذه أول مرة لك في قيرغيزيا؟
- لا. كنت هنا في العام الماضي
- هل جربت أماكن الاستجمام عندنا؟
- لا. للأسف لم نتمكن من ذلك بسبب انشغالنا في تغطية الانتخابات الرئاسية.
- عندنا أماكن مهمة وجميلة فيها كل ما تريد إذا خرجت من المطار اليوم أو غدا سأرافقك إليها، وسأعرفك علي كل ما هو رائع وجميل في بشكيك.
- ولكن الأمور متأزمة كما تري لا تأشيرة والأحداث جارية. لقد جئنا إلي هنا من أجل العمل.
- لا يهم. يجب أن تأخذ نصيبك من الراحة الفتيات هنا رائعات يفعلن كل ما تريد. هل تدخن..
- لا. ولكن من أين يأتيكم؟
- من أفغانستان. وأحيانا من أماكن أخري. ولكنه أفغاني. يجب أن تجرب. لا يوجد أروع من ذلك.
- أنا أشعر أيضا أننا أصدقاء. سوف أترك لك رقم هاتفي في موسكو. أرجو أن تتصل بي إذا أتيت واحتجت شيئاً.
- أنا أيضا سأعطيك رقم هاتفي. ولكن يجب أن تجرب الاستجمام عندنا هنا دعك من سفرات العمل، وتعال فيما بعد في رحلة استجمام.
تراجعت خطط العمل إلي الدرجة الثانية، وأصبح الهم الأساسي هو الدخول إلي قيرغيزيا مع بداية الساعة الحادية عشرة ليلاً أيقنت أن الزملاء في موسكو فشلوا تماما في إمكانية توفير أي فرصة لحصولي علي التأشيرة. فجأة اختفي الجنديان - الحارسان. أشعلت سيجارة ورحت أدخن. أصبح الصمت سيد المكان. وهاهي فرصة رائعة للنظر عبر الواجهة الزجاجية لرؤية الجبال القيرغيزية البديعة من بعيد وهي تطل برءوسها ليس كحيونات خرافية كما يجري وصف الجبال في الظلام، بل ككائنات وديعة تقبع كما يحلو لها في استرخاء نادر. بدأت أسرح بأفكاري في وقت واحد نحو القاهرة وموسكو. درجة الحرارة في القاهرة أربعون فوق الصفر، وفي موسكو خمس عشرة درجة فوق الصفر أيضا. وهنا في قيرغيزيا تصل إلي الخامسة والثلاثين فوق الصفر. الرطوبة عالية هنا مثل القاهرة. الحركة البطيئة عامل مشترك للناس هنا وهناك. هناك مظاهرات يومية لأسباب كثيرة، وهنا ثورات وانقلابات وحرق وتدمير وإطلاق رصاص. اختلاف الثقافات يملي آليات المواجهة. وبالتالي صعب أن نقارن بين ما يجري في مصر وقيرغيزيا. قد تكون عوامل الفقر والبطالة والفساد مشتركة، ولكن الأحجام والنطاقات مختلفة، والثقافات أيضا.
رن جرس الهاتف. صرخ أحد الزملاء، الذين تركوني وذهبوا إلي فندق في بشكيك، صرخة أرشميدس «وجدتها». اتضح أنه اتفق مع إحدي موظفات الاستقبال في الفندق علي عمل دعوة فورية وحجز سريع لي وإبلاغ المطار لمنحي التأشيرة، ولكن الساعة الآن الحادية عشرة ليلاً في يوم جمعة تعقبه عطلتا السبت والأحد. من سيفعل كل ذلك والمطار خلا تماما وأصبح مثل صندوق قديم صدئ خاوٍ تماما. أخبرت موسكو علي الفور فرحب الزملاء هناك بالفكرة. ومرت لحظات عصيبة أخبرني بعدها الزميل نفسه بأن أتصل بموظفة الاستقبال بنفسي لأوضح لها بعض التفاصيل. ولكنها قالت لي بعد أن استمعت جيداً لكلامي:
- للأسف الكل مشغول الآن البعض في بيوته الصيفية، والبعض الآخر في المطاعم، وهناك من لا يفكر في العمل الآن ولو كان المقابل مليون دولار. أنا الآن متجهة إلي زملائك لكي أخبرهم بأن يبحثوا عن وسيلة أخري.
ظللنا نتابع بعضنا البعض بالهاتف حتي الساعة الواحدة صباحاً. استقر الأمر علي أنها ستبدأ في الساعة التاسعة من صباح السبت اتصالاتها بمن تعرفهم. وسيتقرر كل شيء في الساعة الثانية عشرة ظهراً. وفي الساعة الواحدة يجب أن تبدأ التنفيذ للحصول علي التأشيرة. أخبرتهم أيضا بأن المقابل قد يصل إلي 500 دولار. أي ببساطة ما يعادل 22500 سوما، وهو راتب موظف محترم لمدة عام كامل. وافقت عندما أخبروني. وطلبت منهم أن يسألوها عن نسبة الضمانات، لأن إدارة المطار سوف تقوم بإعادتي إلي موسكو علي أول طائرة. هناك رحلة في الساعة السادسة والنصف صباحاً، وأخري في الساعة الثالثة بعد الظهر. من الممكن أن يأجلوا الترحيل إلي الرحلة الثانية، ولكن ما الضمانات؟! ناهيك عن أن التأجيل سيحتاج إلي مفاوضات مع موظفي المطار وكل ذلك يستلزم مصاريف ولزوم ما يلزم.
لاحظنا أن الهواتف المحمولة بدأت تعمل بشكل سيئ والاتصالات أصبحت في غاية السوء مع بداية حلول المساء. بدأنا نستعيض عنها بالرسائل الفورية كلما استلزم الأمر. جربت الاتصال بموسكو والقاهرة، كانت الأمور علي ما يرام، ولكن الاتصال مع بعضنا البعض في بشكيك كان في غاية الصعوبة. أرجعنا ذلك، ضاحكين، إلي وجود القاعدة العسكرية الأمريكية إلي جواري، علي بعد عدة أمتار. وتبادلنا بعض النكات السياسية. بعد قليل وصلتني رسالة بعدم وجود أي ضمانات، وأن المبلغ قد يكون أكثر من 500 دولار. ولذلك سنسافر علي رحلة السادسة والنصف صباحا. أي بعد نحو خمس ساعات.
شعرت بالجوع والعطش فجأة. كان الجنديان قد اختفيا تماما. تجولت قليلاً. نزلت الدرج إلي صالة السفر. نظرت بعيون ملهوفة ونهمة إلي أكياس «الشيبسي» وزجاجات «الكوكا كولا». لم أجرؤ علي مد يدي. فكرت في أن أصبر الساعات القليلة المتبقية إلي أن تبدأ الحركة في المطار.
ذهبت إلي دورة المياه. غسلت وجهي ورأسي ودخنت. عند خروجي فوجئت بجندي شاب في ملابسه الداخلية. نظر إلي مندهشاً وكأنني عفريت خرج لتوه من الزجاجة. لم يوجه أي سؤال. طلب فقط ولاعة، ثم سيجارة. أخذهما ودخل دورة المياه. صعدت إلي أعلي لأجد الرجل العجوز فاردا صحيفة أمامه وعليها بعض الخبز والجبن والحلوي، وبجواره زجاجة ماء. دعاني بلغة روسية سيئة إلي مشاركته وهو يطلق ابتسامة في غاية الطيبة والهدوء. اكتشفت، علي بعض أشعة الضوء الأصفر الذي يغطي الطائرات الأمريكية، أنه بلا أسنان. ابتسمت خجلا وشكرته بأدب بينما معدتي تتلوي من الجوع. ابتسم الرجل قائلا:
- زوجتي ماتت بعد أن قتل ابننا الأصغر في ثورة السوسن. كانت تحبه كثيرا. أقعدها الحزن في البداية عندما قتل الابن الأكبر في الجيش. وبعد أن تركتنا ابنتنا الوحيدة واختفت مع شاب أوزبيكي توجهنا إلي موسكو.. ماتت هناك فجأة وتركتني وحيدا.
- ولكن لماذا تعود الآن، ولمن؟
- لا أدري. أريد أن أموت في «أوش». سمعت أن هناك قتلي وجرحي. قد أكون بينهم إذا تركوني أدخل بلدي.
- الاشتباكات انتهت. والقائمة بأعمال الرئيس كانت هناك اليوم.
ابتسم في أسي وسخرية:
- لا شيء ينتهي هنا. ستبدأ في أي وقت.
لملم الصحيفة. وتركني متوجها إلي مقعدين متجاورين واستلقي علي ظهره وراح يغني أغنية قيرغيزية بصوت باك.
توجهت إلي حيث تركت حقائبي. نفضت رأسي تماما من هذه المهمة المعقدة. رأيتها فرصة نادرة للجلوس مع نفسي. شعرت باسترخاء مدهش بمجرد أن راودتني فكرة العطلة.
استيقظت فجأة علي صوت يسأل عن ولاعة. رأيت وجه صبي صغير يبلغ الثمانية عشر عاما بالكاد يرتدي زياً عسكرياً. ناولته الولاعة وعلبه السجائر. أشعل سيجارة وتابع مكالمته الهاتفية باللغة القيرغيزية متجولاً بين المقاعد. كان من الواضح أنه يتحدث مع صديقته
انتهزت فرصة اقترابه مني وسألته فجأة:
- متي يأتي رؤساؤك إلي العمل؟
- لا أعرف
جلس جندي ثان أمامي مباشرة. راح ينظر إليَّ بتمعن. بعد قليل وضع يده تحت ذقنه وأخذ يحملق بشدة في وجهي. نظرت في الساعة فوجدتها الثالثة صباحا. نهضتُ فجأة كما يفعلون واتجهت إلي أعلي حيث حقائبي. خلعتُ حذائي واستلقيت علي مقعدين متجاورين وأسلمت نفسي للنوم.
استيقظت مرة أخري علي صوت جندي آخر. نظرت في الساعة فوجدتها تشير إلي الرابعة. أشار لي بأن أرتدي حذائي وأتبعه. سرت وراءه وكأنني منوم مغناطيسيا. دخلنا وخرجنا من ممرات ضيقة. وفجأة وجدت نفسي أمام رئيس الوردية في قاعة الدخول. كان يملأ استمارة ما وأمامه جواز سفري الذي أخذه بالأمس. قال ضاحكا:
- حاولنا مساعدتك ولكن بدون جدوي
- أشكرك. ولكن ما هذا؟
- أمر ترحيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.