يبدو أن صعيد مصر له من اسمه نصيب، فهو يجمع دائما بين العلو في المكان والمكانة، فهو المصدر الأكبر للرجال الأفذاذ وصفوة المبدعين الكبار، الذين تلقنوا أصول المهن بحرفية كابرا عن كابر.. والي الصعيد ينتسب فهمي عمر قطب البلاغة ورائد الإذاعة ورئيسها الأسبق وأشهر مؤرخيها الثقاة بسجله الحافل الزاخر بالحيوية والوطنية والأسلوب المكين.. أشهر من نطق «هنا القاهرة» وأول من أرسي فكرة التعليق علي مباريات الدوري العام بالإذاعة عام 1955.. صاحب الأيادي البيضاء علي إذاعة الشباب والرياضة.. يحلق بنا في عوالمه الإذاعية مذكرا بأدب الحوار الذي تتجاهله الفضائيات مدافعا عن معشوقته (الإذاعة) التي يتم معاملتها بإهمال وفتور مثل الزوجة الأولي التي لا تلقي اهتمام الزوجة الثانية (التليفزيون)، فهمي عمر الذي تشرب الدستور الإذاعي غير المكتوب ببنوده الأخلاقية والمهنية.. والتي تحمل أيضا آيات الوفاء والاخلاص للرواد الذين حلقوا في فضاءات السحر والخيال من ألف ليلة وليلة وعلي بابا والدندرمة.. وكسروا قيود الزمان وحواجز المكان وشهدوا بالتفوق والمنعة للمنافسين مثل شهادة إخوة يوسف له بالاستئثار بمحبة أبيه.. فهمي عمر الذي مثل جيلا كانت تسكنه عبارة «مصر فوق الجميع» ليقينه «إنما الناس سطور كتبت لكن بماء».. شيخ الإذاعيين يفتح خزانة ذكرياته للأهرام ويتحدث عن تفاصيل بيان ثورة 23 يوليو 1952، حيث كان مذيع الفترة الإذاعية وكيف كان البيان رصينا هادئا شامخا في مستوي الحدث الذي احتشد له الجميع.. وما أحوجنا لأخذ العبرة والاعتبار في اللحظة الآنية. يقول الشاعر العربى: كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب .. أما وقد صافح أدبك الجم آذاننا بالإذاعة سنينا فلتحدثنا عن النسب ونشأتك وجذور موهبتك؟ يجيب شيخ الإذاعيين بابتسامة وحياء صعيدى فطرى فيقول: أنا انتمى لمحافظة قنا من قرية تبعد عن دشنا ما يقرب من عشرين كيلومترا اعتدت حياة المشقة وتحمل المسئولية منذ صغرى حيث كنت أعبر نهر النيل أسبوعيا لمدة ساعة ونصف مستقلا “الرفاص” وهو وسيلة نقل نهرية كانت تخوض فى مياه النيل إلى البر الغربى حيث توجد مدرستى الإبتدائية التى زاملنى فيها أبناء عمى حيث كنا نسكن معا فى أحد البيوت العتيقة ونغترب ستة أيام فى الأسبوع لذلك اعتدت إلى الآن القيام بجميع شئونى الخاصة بنفسى حتى فى هذا العمر بعد حصولى على الابتدائية عام 1940 احتفل والدى عمدة القرية بهذه المناسبة وأقام ليلة ذكر فى الدوار تكفل بها رجال “الحضرة” ثم التحقت بمدرسة قنا الثانوية وكانت نموذجية فى تجهيزاتها من الملاعب والمعامل وحتى المسرح والأدوات الموسيقية والنشاط الرياضى والكشافة بالرغم من أنها مدرسة حكومية ثم جاءت النقلة الحضارية الكبرى فى حياتى عقب حصولى على التوجيهية عام 1945 حيث تقدمت بأوراقى لكلية الحقوق بجامعة فاروق الاول (الإسكندرية) وكنت أود فى البداية الالتحاق بمعهد الكيمياء الصناعية لكى استخرج كنوز الصحراء الشرقية ولكن والدى كان لديه اصراراً على الحاقى بكلية الوزراء ورجال السلك القضائى ولكن شاءت الأقدار أن يغلق باب الالتحاق بمعهد الكيمياء قبل أن ندركه وهكذا التحقت بكلية الحقوق وخلبت هذه المدينة الساحرة عقلى ووقعت فى غرامها فلا وجه للمقارنة بين طبيعتها اللينة ونسائم بحرها ونسائها المتحررات من البرقع والملس بالصعيد الجوانى وقسوة حرارته ودروبه البدائية ومواصلاته الشاقة وفى الإسكندرية ولد عشقى الذى لم يفارقنى للرياضة وحبى الآثر لكرة القدم فقد كانت كلية الحقوق تجاور نادى الاتحاد السكندرى بالشاطئ فعرفت طريقى إلى المدرجات وأدمنت مشاهدة الاتحاد السكندرى والأوليمبى وزاد تعلقى بالكرة بعد إرساء مسابقة للدورى العام لكرة القدم عام 1948 وقررت أن تصبح الإسكندرية موطن أقامتى الدائم وبعد حصولى على ليسانس الحقوق عام 1949 بدأت أشق طريقى عن طريق الأهل لاصبح وكيلا للنائب العام والتحقت كمحام تحت التمرين بمكتب د. محمد صالح عميد الحقوق الأسبق. لماذا تبدلت الأحلام من السلك القضائى إلى العمل الإذاعى؟ لم ترد الإذاعة بذهنى على الإطلاق ولكن فى إحدى المرات فاتحنى د. صالح بأن الإذاعة المصرية أعلنت عن طلب مذيعين ومقدمين برامج فاقترح أن أتقدم إليها بأوراقى ريثما أحصل على وظيفة وكيل النيابة التى كنت أطمح إليها ونجحت فى الاختبار عام 1950 وجاء فى حيثيات القرار صلاحية صوتى وأدائى السليم للغة العربية والمخارج الصحيحة للألفاظ وتم اعتمادى مذيعا بالإذاعة مع إيقاف التنفيذ لأن لهجتى يشوبها بعض الكلمات الصعيدية ومن ثم مكثت أكثر من عام مذيعا خارج الهواء أى أقوم باستقبال ضيوف الإذاعة وترتيب إجراءات التسجيل بالتنسيق مع مهندس الصوت وكانت فترة من أغنى الفترات التى أثرت علاقاتى الإنسانية بكوكبة من القمم فى كافة المجالات فقابلت عباس العقاد وسليمان نجيب ود. محمد عوض محمد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعشرات النجوم والفنانين ووطدت عزمى على التخلص من تلك اللهجة الصعيدية تدريجياً وكان الإذاعى العظيم عبد الوهاب يوسف يحرص على تدريبى عمليا فى مكتبه على اللهجة القاهرية وبعد فترة وجيزة ارتبطت بالإذاعة بكل وجدانى ونسيت مجال النيابة تماما فقد شاء المولى عز وجل أن أعمل مع أساطين الإذاعة الذين قام على اكتافهم هذا الصرح الثقافى والفنى العملاق الذى أمد الوطن العربى كله بالخبرات فعملت مع الإذاعى الرائد على خليل الذين كان يحمل لقب “حضرة صاحب العزة” لأنه حصل على البكوية من الملك فاروق لأنه قام بتمصير الإذاعة وله بصمات واضحة فى تطويرها وعملت مع حافظ عبد الوهاب وبابا شارو وعبد الحميد الحديدى كانت الإذاعة منبراً للثقافة والترويح وكان شعار هؤلاء الرواد العظام الحيوية والدقة والانضباط فكان لابد من ارتداء البدلة ولا يسمح بدخول المذيع الأستوديو بالقميص والبنطلون لأن التأنق والالتزام فى المظهر سينعكس على الجوهر فالمستمع ذكى ويشعر أن المذيع شعره أشعث وملابسه غير مهندمة من دقة أدائه وانضباط وحسن تشكيله للكلمات وضبط الوقفات هكذا تعلمنا من أساتذتنا أما الخطأ فى النحو أو الصرف فكانت عقوبته رفع الاسم من جدول المذيعين لمدة أسبوعين!! لم يستحسن والدى فكرة الإذاعة فى البداية وظل عازفا عن سماعى فى الراديو حتى فاتحه مدير قنا وكان بمثابة المحافظ فى اجتماع لعمد المحافظة بأنه يستمع إلى ابنه فهمى وسأله كيف أصبح مذيعا منذ ذلك اليوم اعتاد والدى سماعى واشتهرت بالمذيع الصعيدى وكتب الصحفى الكبير جليل البندارى مقالا عنى فى آخر ساعة عام 51 يشرح فيه قصتى مع اللهجة الصعيدية ... كنت أول مذيع يستقبل نسمات ثورة 23 يوليو لأنك كنت مذيع الهواء فى هذا اليوم التاريخى فلتحدثنا عن التفاصيل التى طوتها السنين فى زحام الأحداث؟ ويبدو أن السؤال أشعل جمرة حماسه ومبعث افتخاره بهذا اليوم العظيم فأجاب: كنت مذيع الفترة الصباحية يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 وكان الأرسال يبدأ فى السادسة والنصف صباحا وأثناء عبورى تقاطع شارع الشريفين مع صبرى أبو علم فى طريقى للاستوديوهات بشارع علوى لفت انتباهى وجود حراسة مكثفة حول مبنى الإذاعة من رجالات الجيش وكانت الحراسة المفروضة منذ حريق القاهرة 1951 من عساكر الداخلية فمنعت فى البداية من دخول شارع علوى لكنى اخبرتهم أننى مذيع الفترة الصباحية وكان ذلك فى السادسة تقريباً فسمح رئيس السرية بصعودى للإذاعة وبمجرد دخولى استراحة المذيعين فوجئت بالبكباشى أنور السادات جالسا وحوله مجموعة من الضباط المرهقين على ما يبدو من السهر والعمل يحملون البنادق على أكتافهم صافحت السادات وكنت أعرف صورته جيدا من الجرائد والمجلات فى الأربعينيات حيث نشرت صورته فى قضية اغتيال أمين عثمان واضافة لمذكراته التى كان ينشرها فى مجلة المصور فشعرت أننا على مشارف تحقيق حلم ظل يراودنا وبلغ غايته أو يكاد فنحن أبناء هذا الجيل كنا نسير فى المظاهرات للمطالبة بجلاء الإنجليز منددين بفساد الأحزاب والقصر وسقوط الملك وجاء حريق القاهرة والتعديلات الوزارة العبثية المتكررة لتغطى المشهد بالضباب الكثيف فمكثنا حوالى شهرين نعانى من حظر التجوال منذ السادسة مساء حتى السادسة صباحاً والحظر يتم بدقة وانضباط فلا يوجد إنسان بالشارع إلا بتصريح لا كما حدث فى ثورة يناير وكنا كمذيعين نحمل هذه التصريحات فقد احترقت القاهرة التى كانت اشبه بتابلوه فنى جميل لمحات خاطفة من البهجة مرت أمامى وأنا استمع إلى السادات وهو يقول بابتسامة وثقة سنقوم بإجراء تعديل بسيط على برنامجك المعتاد لأننى سأقوم بإلقاء بيان فى بداية الإرسال الصباحى فى السادسة والنصف وفهمت أننى سأكون بعيدا عن هذا الأمر فرحبت على الفور واستبشرت خيرا وكان مقررا أن يذاع البيان بعد الموسيقى العسكرية مباشرة ولكن قطع الإرسال فجأة وظهر القلق على وجه السادات لكنه ظل رابطاً الجأش وخرج من الاستوديو وقام بإجراء محادثة تليفونية وتم إرسال وحدة عسكرية إلى ابى زعبل حيث توجد محطات الإرسال واستغرق الأمر ساعة تقريبا “دقت ساعة جامعة فؤاد الأول السابعة والنصف من صباح الأربعاء 23 يوليو وإليكم نشرة الأخبار التى نستهلها ببيان من القوات المسلحة يلقيه مندوب القيادة” كانت هذه هى كلماتى التى لا أنساها ما حييت وقدمت بها السادات الذى وقف كالطود الشامخ واثقا متأهبا وانساب صوته المميز سلسلا والكلمات التى صاغها اللواء جمال حماد بصورة بليغة محكمة وجاء إلقاء السادات للبيان إذاعيا بامتياز ولم يحدث خطأ نحوى واحد والوقفات سليمة والصوت جهورى يعبر فى بلاغة عن الحدث الجلل و كان إلقاء البيان بهذه الصورة من الأهمية بمكان لحشد الجماهير والتفافها حول الثورة التى كانت تنتظرها ولكن لم يتم تسجيله لأن نظام التسجيلات كان يبدأ فى التاسعة صباحاً وهكذا ألقى السادات البيان بصوته وأخبرنى أنهم يريدون عدم اقحامنا فى هذا الشأن الذى يخص الجيش وحده حتى هذه اللحظة التى لم تتكشف فيها الأمور على النحو الأكمل وكان مصيبا لأن الثورة لو فشلت وأذعت أنا البيان كان يمكن أن أتعرض للمساءلة وما هو أكثر من ذلك ويقال لى لماذا لم أمت فداء للفاروق على سبيل المثال؟ وأردف السادات قائلا: أن الضباط سيقومون بقراءة البيان ولكنهم للأسف الشديد لم يكونوا فى كالسادات فى سلامة نطقه وأذيع أكثر من مرة بصورة ركيكة وتم تسجيله بصوت الضباط فى التاسعة صباحا ولم يذاع بصوت المذيعين إلا فى نشرة الثامنة والنصف مساء حين استتب الأمر وبمجرد مغادرتى لمبنى الإذاعة فوجئت بتوافد المواطنين من كل حدب وصوب وهم يحيطون الجنود ويتسلقون المصفحات ويقدمون الشاى للضباط. لماذا شكك البعض فى قراءة السادات للبيان الأول وقيل أنه تم تسجيله فيما بعد؟ لم يكن هذا أسلوباً مكينا فى الخصومة السياسية أو الاختلاف فى الرأى كما تفوه بذلك بعض الأسماء الشهيرة حتى أن أحدهم قال يبدو أن فهمى عمر أصابه الزهايمر فى هذا الشأن ولكن التاريخ المكتوب والوثائق تفند هذه المزاعم وتؤكد أننى كنت مذيع الفترة الصباحية وفى اليوم التالى أدليت بتصريحات للصحف والجرائد كلها محفوظة فى الأرشيفات حيث رويت هذه القصة وكيف ألقى السادات البيان وبعد مرور ستة أشهر على الثورة قرر السيد بدير كبير مخرجى الإذاعة آنذاك توثيق الحدث وتم الاتصال بوجيه أباظة مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة ترتيب الأمور وذهبت للرئيس السادات فى مجلس قيادة الثورة وقام بتسجيل البيان بصوته وذكر قصة البيان الأول والمذيع الصعيدى فهمى عمر فى حواراته الشهيرة مع همت مصطفى. عاصرت ثورة يوليو 1952 وثورة التصحيح ضد مراكز عام 1971 وثورة 25 يناير 2011 فما أبرز ملامح كل منهم فى عبارة موجزة؟ مع الأخذ فى الاعتبار اختلاف الأزمنة والأجواء فيحسب لثورة يوليو الحفاوة الشعبية التى إحاطتها والقيادة السياسية الناضجة التى ألهمتها وهجها الدائم كان قادة الثورة أصحاب مشروع وطنى متكامل محدد الأهداف لديهم خبرة عسكرية وثقافة متسعة وقائد بحجم عبد الناصر استطاع الإمساك باللجام وتصويب الأمور تحقيق والانجازات من إصلاح زراعى إلى تأميم القناة وغيرها من الأنجازات أما ثورة التصحيح فكانت بمثابة مذبحة للعديد من القيادات والكفاءات التى أطيح بها بعيداً عن المجال الإعلامى برمته كان القلق يسيطر على أبناء ماسبيرو ونحن نترقب كشوف المبعدين كان هناك بالفعل تجاوزت حدثت من البعض ولكن كما يحدث عادة فى ردود الأفعال السياسية كما نقول “أخذ عاطل على باطل” فتم إحالة اسم بحجم جلال معوض على المعاش وهو فى سن الأربعين وكان يرحمه الله ألمع جيلنا ارتبط صوته بآذان الجماهير عام 1952 لأنها كانت تنتظر بشغف مصير الثورة النهائى لمدة أربعة أيام والذى حدده بيان مغادرة الملك فاروق للبلاد يوم 26 يوليو الذى ألقاه جلال معوض وكان جلال له موقف محدد من الرئيس السادات فكان معروفا عنه أنه مذيع الثورة مصاحبا للرئيس عبد الناصر فى كل المناسبات ويتولى تقديمه قبل إلقاء كلماته وخطبه وبعد وفاة عبد الناصر امتنع عن مصاحبة السادات وحدثت بعض الوشايات التى أوغرت صدر السادات ضده وأخبره المدعى الاشتراكى أنه سيحال إلى المعاش فذهب لمقابلة السادات فى منزله بالمعمورة لكن لم يوفق فى مقابلته وأحاله إلى السيد عبد القادر حاتم وزير الإعلام ففهم أن الأمر قد حسم فى غير صالحه وتم أيضا استبعاد أمين حماد رئيس الإذاعة الأسبق وهو فى السابعة والخمسين من العمر وكان من أخلص أبناء الإذاعة وكان قاضيا تحكمه روح العدل والإنصاف والإبداع مع كل أبنائه وزملائه فيما يتعلق بثورة 25 يناير فقد حصدت شعبية غير مسبوقة لكن ثورة يوليو لم يكن بها مظاهرات واحتجاجات فئوية أو إعلاء مبدأ “الآنية” الذى يطالب بتحقيق المطالب فوريا وكانت تتمتع بقيادة موحدة. عملت مذيعا للبرنامج الكوميدى الشهير ساعة لقلبك فكيف ولدت فكرته ومن هم أحب نجومه إلى قبلك؟ الإذاعة كانت بمثابة جامعة اثيرية ومعمل تفريخ للكفاءات بالرغم من ضعف الإمكانيات آنذاك والتقدم التكنولوجى حالياً إلا أننى أزعم أنه من الصعب تقديم تلك الصور الإذاعية التى أخرجها الإذاعى الكبير عبد الوهاب يوسف مثل “على بابا” والدندرمة وألف ليلة وليلة التى كتبها طاهر أبو فاشا والأغانى للاصفهانى والتى أخرجها جميعا بابا شارو وأثرت الوجدان والهبت الخيال أنه جيل نحت فى الصخر كان العمل والإبداع هما فقط مبتغاه وكان أحمد طاهر – رحمه الله – مذيعا كبيرا بال B.B.C وبعد إلغاء معاهدة 1936 عاد للإذاعة المصرية وكان صاحب فكرة إدخال كل البرامج الجماهيرية الشهيرة مثل على الناصية وأوائل الطلبة وجرب حظك وساعة لقلبك كان يقدم هذه البرامج فى البداية بمفرده ويمكث حوالى ست عشرة ساعة بالأستوديو للتسجيل والمونتاج ووزعت البرامج على المذيعين وأصبح مديراً عاماً للمنوعات وكان ساعة لقلبك من نصيبى وكنت أتولى تقديمه من 1954 إلى عام 1963 كان أشهر نجومه حسين الفأر وسلطان الجزار وأحمد الحداد وقررت عمل إعلانات لتطوير البرنامج واكتشاف نجوما جدد عن طريق مسرح الجامعة والكشافة وكان أول الغيث أبو لمعة الأصلى وأمين الهنيدى وسعيد حشمت وكانوا يعملون معا بمدرسة فاروق الأول الثانوية بالخرطوم فجاءوا إلى مكتبى فى الإذاعة وقاموا بتقديم فقرات ضاحكة وأقترح أبو لمعة “محمد أحمد المصرى” الذى سيصبح فيما بعد ناظراً للمدرسة السعيدية وجود شخصية خواجة يقوم أبو لمعة باستغلال عدم علمه التام بالضحك عليه وكانت الحلقة التى يعمل فيها أبو لمعة والخواجة وبيجو (فؤاد راتب) لا تنسى واكتشفت هذا الجانب فى فؤاد راتب وجلسنا جميعا واقترحنا أن يقوم بهذا الدور بعد أن يقدم شخصية الفتوة أما الدكتور شديد (فرحات عمر) فكان دارسا للفلسفة ويتردد على صالون العقاد وصحبنى معه وأسرة ساعة لقلبك إلى ندوة العقاد يوم الجمعة وكانت تربطنى به صلة إذاعية حين كنت مذيعا صغيراً خارج الهواء وكان منضبطا للغاية فى مواعيده وحدث أن تأخرت مرة عن موعد التسجيل خمس دقائق فقال لى : من أنت حتى تتأخر عن العقاد؟ فانفعلت وتكلمت بلكنه صعيدية فقال أنت صعيدى وتعارفنا وكان خفيف الظل ولم يكن متجهما كما أشيع عنه ولكنه مفكرا جاداً كريما فى منزله يلزم موقع الأستاذ دائما وكان ساعة لقلبك يخطى بجماهيرية غير مسبوقة حتى أننا كنا نستأجر مسرح الريحانى لمجابهة الزحام ولكن بديع خيرى الغى التعاقد خوفا على المسرح ثم قدمت أيضا مجلة الهواء وكانت فكرة إحسان عبد القدوس والرياضة فى أسبوع والتعليق على مباريات الدورى العام وكانت فكرة مستحدثة للغاية عام 1955 أحدث دويا وساهمت فى إثراء الثقافة الكروية وكنا نستعين بمعلقين رياضيين خبروا الملاعب مثل كابتين لطيف وحسين مدكور وكثير من أشهر اللاعبين الكرويين الذين كانوا يرسمون صورة حية تلهب خيال المستمعين لماتش الكورة وتجعل المستمع بالفعل يسمع وكأنه يرى لانهم يفهمون فنيات اللعبة جيداً وليسوا مثل معلقى هذه الأيام. ارتبطت بالفنان عبد الحليم حافظ ومجدى العمروسى وكنت سببا فى تعارفهما كما جاء فى مسلسل حليم فكيف بدأت هذه الصداقة؟ مجدى العمروسى كان زميلا فى حقوق الإسكندرية قابلته بالصدفة أثناء توجهى لإذاعة حفل لأم كلثوم حيث كان محمد عبده صالح عازف القانون الشهير يحجز له تذكرة للحفل شهريا فأخذته إلى بنوار الإذاعة ومنذ ذلك الحين فى منتصف الخمسينيات عادت الصلات أما عبد الحليم حافظ فكان عضوا فى الفرقة الموسيقية للإذاعة عازفا على آلة الأبوا الشرقية كان ضئيل الجسم لكنه يتمتع بحضور طاغ واسمه آنذاك عبد الحليم شبانه بعد انتهاء فترة الإذاعة الأولى فى الثالثة ظهراً اعتاد الجلوس معنا فى استراحة المذيعين وكان يغنى بعض الأغانى القصيرة وأوعزنا إلى مدير الإدارة الموسيقية حافظ عبد الوهاب بسماعه فتحمس له ومنحه اسمه ليصبح اسمه عبد الحليم حافظ كان رحمه الله يهوى كرة القدم وكثيرا ما صحبنى أثناء إذاعة المباريات فى أوائل الخمسينيات فى بداياته وكان قريبا جداً من نجوم الزمالك وغنى فى فرح عصام بهيج حتى تيقنت أنه زملكاوى ولكن حين أخذ نجمة فى الصعود أخبرنى أنه أهلاوى صميم وكان ذلك ذكاء منه لان جماهير الأهلى أكثر عددا بالرغم من أننى زملكاوى وفيما بعد التقى بمجدى العمروسى فى منزلى وأصبحا أصدقاء وأسسا مع محمد عبد الوهاب صوت الفن. لماذا توقفت برامجك الرياضية تحديداً بعد هزيمة 1967؟ لم تكن برامجى وحدى ولكن بعد النكسة اكتشفت القيادة السياسية أن القيادة العسكرية شغلتها الرياضية عن المهام الجسام المنوطة بها فكان المشير عامر رئيسا لاتحاد كرة القدم والفريق مرتجى رئيسا للنادى الأهلى ولكن من الطريف أن النشاط الكروى عاد عام 1970 بالصدفة حين نقابل كابتن لطيف بالرئيس عبد الناصر أثناء زيارتهما لليثى عبد الناصر شقيق الرئيس فسأل عبد الناصر لطيف عن سبب توقف مباريات الكرة فابتسم لطيف وفهم أن ذلك قراراً ضمنيا ًبالعودة وكنا نعتقد جميعا أنها توقفت بأوامر عبد الناصر وهكذا عادت الكرة والبرامج إلى الملاعب بعد ثلاثة مواسم من التوقف. تقديم حفلات أم كلثوم إبداع يضاف للأداء الرائع لسيدة الغناء فيكف كانت تجربتك فى تقديم حفلات أم كلثوم؟ يبتسم الأستاذ فهمى عمر ثم يضحك عاليا ويقول: تقديم حفلات أم كلثوم فن ابتدعه الإذاعى الرائد محمد فتحى كان يتناولها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها واصفا تسريحة الشعر والإكسسوارات والفستان والمنديل الذى يلامس معصمها وشعرت بالسعادة حين ابلغنى حسنى الحديدى أبلغت أننى سأذيع حفلها من حديقة الأزبكية فى الخميس الأول من مارس 1954 وفى البدء سرت السكينة والهدوء فى نفسى بعد لحظات من الاضطراب والقلق وفجأة أشار المهندس ببدء التعليق على الهواء وانسابت الكلمات بعفوية ودقت الدقات التقليدية على المسرح وإذا بى أقول : “والآن أيها الستارة ترتفع السادة عن أم كلثوم” وكانت طرفة عاشت طويلا وتندر بها الوسط الإذاعى والست ضحكت كثيرا حين سمعتها وكانت بطبيعتها بنت نكتة وأذكر حين قال لها ابن أختها محمد دسوقى زميلنا فى الهندسة الإذاعية فى بداية تعارفى بها أننى صعيدى ضحكت وقالت: (صعيدة يا فهمى). رحمها الله كانت ومازالت تمثل عصراً بأكمله من الفن والإبداع والشموخ فى مصر والعالم العربى.