في مثل هذه الايام منذ أقل من نصف قرن بعام واحد رحل رجل في شرخ شبابه إذاعي قدير صاحب صوت لن يتكرر وصاحب برامج إذاعية مازالت تنبض بالحيوية والجمال كلما استمعنا اليها رغم الحقب والسنوات الطوال التي مرت منذ أن أخرجها هذا العملاق الإذاعي الراحل عبد الوهاب يوسف وكان الاخراج رائعا رغم أن التقنية الهندسية في تلك الأيام كانت شبه بدائية فالأشرطة من الصلب وماكينات التسجيل تحتاج الي قوة بدنية لتشغيلها وكانت عمليات المونتاج تحتاج الي دقة متناهية وشطارة مابعدها شطارة وكان عبد الوهاب يوسف يمتلك ناصية الدقة وناصية الشطارة وعندما توفي عبدالوهاب يوسف في نوفمبر سنة1951 كان عمره لايتجاوز ثلاثة وثلاثين عاما وكان عمره الاذاعي لايتجاوز اثني عشر عاما ومن هنا يأتي إقتداره الاذاعي لأنه علي مدي هذه السنوات القصيرة أخرج العديد من البرامج والصور الغنائية إضافة الي عمله كمذيع وقارئ نشرة بل ويقوم بالتمثيل في التمثيليات والدراما الاذاعية. وعبدالوهاب يوسف خريج قسم اللغة الانجليزية من كلية الآداب وهي الكلية التي كانت تمد الاذاعة بالعناصر التي تجتاز الامتحانات الرهيبة التي كانت تعقد للمتقدمين من خريجي هذا القسم فقد كان الرائد الاذاعي الاول محمد فتحي خريج القسم الانجليزي وايضا كان الانجليز هم الذين بيدهم مقاليد الاذاعة حسب العقد المبرم بين الحكومة المصرية وشركة ماركوني الانجليزية ويبدو ان عبد الوهاب يوسف كان من نجوم كلية الآداب في تلك الايام لأنه لم يجد عنتا في اجتياز امتحانات المذيعين سنة1939 فهو واحد من فريق التمثيل في الكلية وهو شاعر وكاتب غنائي وقصاص إضافة الي ذلك بل وفوق كل ذلك صاحب صوت مميز له جرس جميل وايقاع تصغي له الأذن بل وتعشقه ولم تمض إلا سنتان أو ثلاث حتي كان عبد الوهاب يوسف قد تفتق ذهنه وحسه الإذاعي عن تقديم صور غنائية وأوبريتات وبرامج كانت شيئا جديدا في دنيا الفنون الاذاعية وعندما صافحت هذه البرامج أذن المستمع وجدت قبولا طيبا وصدي جميلا بل وأصبحت بعض الجمل والكلمات التي جاءت علي لسان الممثلين متداولة في كلام الناس خلال الحياة اليومية.. وتعددت البرامج الغنائية التي قدمها وتنوعت مابين التاريخي والفولكلوري والديني. قدم برنامجي ظهور الإسلام والسيرة العطرة وقدم نزهة والسامر وابن البلد وفلاح النيل ومن الحكايات الفولكلورية قدم علي بابا ومعروف الاسكافي ومن الصور الغنائية قدم نجوي الزهور والسامر والسوق وفي جزر هاواي ومن التاريخ قدم خوفو وقطر الندي ومن الشخصيات قدم برامج عن نجيب الريحاني وسيد درويش وبلغت اعماله جميعا عشرين عملا إضافة الي ذلك كان من كتاب الأغاني ولحن أغلب اغانيه الموسيقار علي فراج وغناها محمد قنديل مثل اغنية مالي بيه الواد الخاين مالي بيه والريح نادي وسهارة الليل, ويابحر ضلوعي نار كما غني له حليم الروي أغنية يامكحل رمشك وكان آخر أعماله الاذاعية برنامج خوفو الذي ظل يخرجه علي مدي اسابيع عديدة في أوائل سنة1951 وكان العمل رائعا من ناحية اخراجه وموسيقاه ولذلك تقدم به لمهرجان الأعمال الاذاعية الذي أقيم في مدينة باري الايطالية في نوفمبر من عام1951 ووجد عبد الوهاب يوسف دعما من الاذاعة فسافر الي المهرجان ممثلا للاذاعة المصرية ومسمعا برنامجه للجنة التحكيم وجاءت لنا البشري نحن تلاميذه من المذيعين الشباب بأن عبد الوهاب يوسف حظي برنامجه خوفو بالمركز الثالث في المسابقة العالمية وترقبنا حضوره بفارغ الصبر ووصل الراحل الكريم مساء أحد ايام الاسبوع الثالث من نوفمبر من ذاك العام1951 وترقبنا حضوره الي مكتبه لنقوم بالتهنئة وعقدنا العزم علي إقامة حفل تكريم له ولكن في الصباح الموعود وبدلا من ان يجيء عبد الوهاب يوسف الي مكتبه جاءنا نعيه كان عريسا لم تكتمل بعد شهور عسله وجاء الموت بغتة وهو في عنفوان توهجه وشبابه البعض قال إن السبب أزمة قلبية مفاجئة والبعض قال ربما تكون لعنة الفراعنة بسبب برنامج صاحب الهرم الاكبر خوفو ولكنها ارادة الله الذي ندعوه ان يكرم مثوي هذا الاذاعي الفذ.