أبدت دهشتها من فرط انهماكه وتشاغله الشديد, وترنمه بأغنيات غير مسبوقة, يتصاعد نشيجها الي أفق سماوي غير معلوم, فيتهافت الحلم السهل إدراكه, علي الحلم الذي يشف, خلف ترهات زمان يتمادي في الرحيل. يتوغل في العمر, الذي تجف منه سنابل عديدات, وتنبت في رحم تربته الخصبة, اناشيد عفية.. موشاة حوافها بالطين, وتغرد سماواته بحناء الوقت المفضي الي الوهم, الي عقارب الساعات, التي تبحر في دواخلنا, تبحث عن أدلة وبراهين, تقودنا نحو نور شفيف, تتخايل ستائره المخملية.. علي ضفاف نهر جار تتهادي علي جنباته واطرافه, فرسان مغاوير, يوهلون, الفرات والشام, مدججين بالسلاح, وبالأغنيات, قادمين, يبغون النجاة والفرار, من الحلم المستحيل.. الي أودية الممكن وصحاري الوقت الممتد, ما بين عظمتي الكتف.. وأطلس العمر المتوزع علي قارات العالم, المبتهجة, والناعسة. ما بين اشتياقات واحتراقات.. سيتوقف العسس عن التجوال في شوارع المدينة عن الطرق علي الأبواب القديمة, في مدائن لم تصادر يوما جوازات سفرنا, برغم أن تصاويرنا بها لا تشبهنا. أبدت دهشتها حين بدأ جدنا في الحديث وقال بنبرته الواثقة: أرضنا الطيبة لا تنبت إلا الطيب. هل تأتي الحشود أم ينهزم المغول, ويولون الأدبار.. وتولد الحناجر سيوف قد تسعفنا, حين يهم الموت المترصد, بالتحول الناعم/ ديار وبيوت وكنائس ومساجد, فنري دويلات توزع كالهدايا, لخليفة نائما في المهد, يصاحب المدي, ويرافق الأطيار في مواسم الهجرة, حتي تحط في سماء القاهرة.. لتستبدل بريشها القديم المتهدل, بريشا جديدا ملونا ظافرا. هبت لك ما أجملك. قاهرة المعز تحمل علي كتفيها, أختام السلطنة, ومشقة الأسئلة, وفقه الأجوبة.. ليصعدوا السبايا السلم الحلزوني, أيبنون الأهرام ثانية؟ لن تحمل الملوك نعوشهم في الموسم الأخير, قبل البعث. لن يفترس السبي السبي في حروب السبايا, لن تباعد بيننا اراجيف يسهل دحضها, ولن يستحل العسس حرمة الحلم الآمن في القلوب, يفردون خرائطهم, يتوسمون تغيير ملامحنا.. تغيير حروف الهجاء.. لنتعلم من جديد اللغة, فن الكتابة/ معاني الكلمات, وما ترمي إليه وما تصبو إليه. الخليفة مازال طفلا نائما في المهد, ومازالت أقواتنا رهينة حقول الغرباء, في الضفة الأخري من هذا العالم, ومازال النشيد ممتدا, باتساع الحناجر, باتساق الصفوف, بانغماس الصبح في بحيرات الوقت, لنبرأ من كل أدراننا.. نتطهر من كل خطايانا.. ندفع ثمنا باهظا لاثم لم نقترفه, لحلم لم نحلمه, لوقت مرق من بين أيدينا كعبد آبق. السحابات عميقة, كثيفة, خلفت وراءها ترهات مازلنا ندور في رحاها كسواق منفلتة. قال الدرويش وهو يقص أنباء أسفاره في بلاد العجائب: .... وقابلنا الخل الوفي والعنقاء.. وطيورا في حجم الأفيال. تبسمنا في مقاعدنا.. ورسمنا بالطباشير علي السبورة طيورا ضخمة بأجنحة ملونة, وعيون زرقاء.. وأغلقنا كراريس الرسم, وشرفات الريح, وعدنا الي منازلنا فرحين. زعق فينا شخص لا نعرفه, فبانت أسنانه المثرمة, تواعدنا سرا, أن نتقابل عند الكوبري.. بجانب النهر, فللنهر عادات ونحن راحلون صوبه.. علنا نلحق بآخر ترانيم حلمنا القادم. الغيث والغوث قال الشيخ وهو يتوسط صحن المسجد مرتكنا بظهره علي أحد أعمدته الرخامية السامقة: مهما مددتم أيديكم فهي قصيرة, ومهما أثرأبت أعناقكم فلن تطولوا المدي, فأول الغيث قطرة... قال أحد المريدين في انتشاء: يا شيخنا الجليل, قتلنا الوجد, وفتنتنا الحكمة.. وطالت أشواقنا للفردوس المفقود. قال الشيخ وهو يلملم عباءته الرمادية, ويساوي عمامته, ويهم بالمغادرة: لن ينقذكم الغوث من الغيث بغير إعمال العقول. مهاب حسين مصطفي