استسلمت لنعاس خفيف بعد أن شحت أضواء المنزل.. تستيقظ علي صوت هاتفها الجوال.. رقم غريب لا تعرفه.. لا ترد.. يعاود الاتصال.. تفتح.. صوت هامس واثق.. غير مرتجف يطلب منها ألا تغلق الهاتف وتسمعه.. قائلا: أنت لا تعرفينني.. لكنني أعرفك.. استدعي خيالك كل يوم.. استنجد به في لحظات الضيق.. يأتيني حاملا معه دفئا لا يقاوم.. لا تسأليني كيف حصلت علي رقم هاتفك.. لم يغمض لي جفن طوال شهور ثلاثة.. حصلت عليه من الجان وقارئة الفنجان.. تضحك لحديثه وتأنس لهمسه وكلماته التي تنسلب في لغة سلسة عذبة.. يعتذر عن حديثه المفاجئ في منتصف الليل.. إنه يعرف طقوس نومها.. وكثيرا من الطقوس المعلنة وغير المعلنة.. ليس له مطمع سوي أن يسمع صوتها الفيروزي.. ضحكتها زلزلت كل كيانه.. سألته عن عمره واسمه..؟ أجابها: بأنه المجروح الذي مازال ينزف حين عرف بخطوبتها أثناء غيابه في رحلة عمل للصين.. ثلاثيني.. طوي شهادته الجامعية وعمل في التجارة.. أسس مع بعض الشركاء مكتبا للاستيراد والتصدير.. له أرصدة في البنوك.. لديه شقة في حي راق وسيارة.. يحبها منذ سنوات التخرج.. وقتها كانت الظروف لا تسمح للتقدم إليها.. فتحت جفنيها علي سعتهما.. كانت الظلمة تهطل كنثيث السحر.. أرخت ساعديها علي ركبتها وأطبقت جفنيها.. محاولة الامساك بالحلم.. مازال صوته كالغسق يأتيها عبر الهاتف.. تذوب رويدا رويدا.. تتلاشي في ذبذبات صوته الذي أربكها.. لا تدري أهي يقظة.. أم استسلمت لحلم بطول الشجن الذي يلفها.. تتأمل زبد السحب وهو يسكب فضته فوق زجاج نافذتها.. لم تكن تريده أن ينهي مكالمته وهو يشكرها لأنها استمعت إليه.. سيعاود اتصاله في منتصف ليل الغد.. راحت في غفوة قصيرة.. رأت نفسها وهي تسير معه في طريق لا نهاية له.. تحف به الأشجار من كل جانب.. مع تغريد الأطيار.. والأزهار المختلفة الأشكال والألوان.. استسلمت لسيمفونية من الجمال والانسجام والروعة غير المسبوقة.. نجح في مكالمة واحدة أن ينسيها خطيبها الذي مازال الوقت طويلا أمامه.. في إعداد شقة الزوجية ومستلزمات الفرح التي يراها باهظة التكاليف.. ليست له حلاوة وألفاظ عاشق منتصف الليل.. ما أن تذكرت خطيبها حتي قفز علي وجهها امتعاض كثيف ولوعة داكنة.. رسمت أحلامها الملونة وأطلقتها فراشات.. فاضت بالبهجة علي كل من في المنزل في ضحكها وركضها وغنائها.. عقربا الساعة يتعانقان.. يعلنان انتصاف ليل جديد.. انسحبت بخطي وئيدة الي غرفتها.. حتي لا تفضحها عيناها اللامعتان.. وهما تتوهجان بألق بالغ.. تجلب الذهول لمن يستدير نحوهما.. رن الهاتف.. تحول وجهها الي لوحة مذهلة صاغها في التو واللحظة فنان بارع.. إنه يهمس لا يتكلم.. لم يستطع النوم منذ أمس.. انتظارا لصوتها الفيروزي.. معها يتشكل عمره.. الزوجة.. الحلم.. البيت والأولاد.. هي الأخري تشكلت ملامحها معه.. لكنها لا تقدر علي البوح بمشاعرها نحوه.. لم يترك لها فرصة الاختيار.. بعد أن ضرب لها موعدا في الغد.. ستتعرف عليه من زهرة الفل في عروة جاكتته في الكافيه الذي يجاور نادي الصيد.. مختتما مكالمته بكلمات دافئة: دونك.. أجف.. أموت في الكافيه.. اختارتها أبعد مائدة في أقصي ركن.. وأرست قاربها علي شاطئ المفتون به والذي من أجله ارتدت أفخر الثياب.. سخية هي الأقدار حين تأتي بما لا نرغب.. لتجد نفسها أمام خطيبها.. وهو يلقي في وجهها دبلة الخطوية.. قائلا: سيطول انتظارك لزهرة الفل.. إنه صنيعتي ولن يأتي.. انشطار يزلزلها.. أمام حلم شتائي الطقوس.. يزحف ويتمدد في بهو الروح التي انكسرت. محمد محمود غدية المحلة الكبري [email protected]