من المؤسف حقا ان يرحل المفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا استاذ الفلسفة بجامعة عين شمس دون ان يجد خبر رحيله اهتماما يستحقه في وسائل الاعلام المصرية اذ لم تبادر أي جهة ثقافية رسمية برثائه, بينما تسابقت صحف ومؤسسات علمية عربية لوداع الفقيد والتأكيد علي الدور الكبير الذي لعبه في خدمة الثقافة العربية وارساء مبدأ التفكير العلمي فيها. وقد يكون المبرر الوحيد لهذا التجاهل تلك العزلة التي عاشها الراحل في سنواته الاخيرة بسبب شيخوخته التي حالت بينه وبين المشاركة في قضايا عدة دار حوله جدل كبير ومن المؤسف ان جميع برامجنا الفضائية وصفحاتنا الفكرية لم تفكر في اقتحام عزلته واعادة تسليط الضوء عليه وعلي افكاره القيمة. وبالنسبة لي كما لاجيال اخري سبقتني كان فؤاد زكريا رمزا ثقافيا كبيرا يصعب ان يذكر اسمه دون ان يأتي محاطا بالجلال الذي يضعه في مكانه لاتقل ابدا عن تلك المكانة التي شملت مفكري جيله الذهبي من أمثال لويس عوض وزكي نجيب محمود وحسين فوزي ومثل هؤلاء الكبار كان الراحل من دعاة الدولة المدنية ولم تثنه التحولات السلبية التي مرت بها المجتمعات العربية والمتمثلة في صعود الاصوليات عن الترويج لتلك الدعوة والدفاع عنها من مبدأ علماني صرف يقوم علي الفصل التام بين الدين والدولة. فهو الذي رفع مبكرا في واحد من مقالاته شعار العلمانية هي الحل ووضعه في مواجهة شعار الاسلام هو الحل وبسبب هذا النوع من القناعات تعرض الراحل لحملات تشويه قاسية شنها ضده دعاة الدولة الدينية بضراوة حتي ان اي محاولة للبحث عن اسمه علي شبكة الانترنت لابد وان تأتي مصحوبة بفيض من التعليقات والمقالات النقدية التي وجهها ضده غلاة المتعصبين وبعض فقهاء الظلام. والحقيقة ان فؤاد زكريا لم يغضب يوما من تلك الحملات وانما عدها دائما دليل حيوية ومؤشرا علي حالة من حالات الحوار التي لم يكن يكف عن الدعوة اليها بأمل خلق مجتمع تعددي يقوم علي التنوع الخلاق ويحترم حرية الاختلاف والاعتقاد. وفي حياته التي امتدت ل83 عاما كان الراحل طرفا في مساجلات فكرية وسياسية تركت للمجتمع الثقافي العربي رصيدا هائلا من المعارك الفكرية التي يجدر استعادتها والتعلم منها في سنواتنا العجاف التي يندر ان نجد فيها معركة ثقافية واحدة تستهدف الدفاع عن قيمة او النقاش عن معني وذلك بعد ان تم تشويه كافة الرموز وشخصنة كافة المعارك لتتفتت الجماعة الثقافية الي ميليشيات كاملة العدة والعتاد لها اسلحتها من العنف الرمزي واللفظي. ويكفي اليوم ان نستعيد معركة خاضها الراحل مع الكتاب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل حول كتاب خريف الغضب الذي كرسه هيكل لتناول حياة الرئيس السادات وقد اسفرت تلك المعركة عن كتاب بالغ الاهمية اعده بعنوان: كم عمر الغضب لم يقتصر علي فكرة الرد علي هيكل وانما امتد ليشمل تقييما عقلانيا للحقبة الناصرية بكاملها ولعل البعض منا لايزال يتذكر موقفه المبدئي الرافض للغزو العراقي للكويت في العام1990 وهو موقف تعرض لتشويه وابتذال اذ ظن خصومه ان موقفه من ديكتاتورية صدام حسين هو موقف مدفوع الاجر نتيجة لارتباط الراحل الطويل بالعمل مع مؤسسات تعليمية وثقافية في الكويت لكن الحقيقة التي لم يذكرها احد من خصومه انه كان دائما ضد ثقافة الاستبداد بكل صورها ولم يكن صدام الذي واجه أفكاره الا احد وجوه تلك الثقافة العربية السائدة. والمتأمل في كتابات زكريا حول ظاهرة الصحوة الاسلامية يدرك كيف انه بدأ في وقت مبكر الدفاع عن الدولة المدنية منطلقا من قناعة فكرية خالصة لم تكن بأمل الحصول علي مكسب او موقع كتلك المواقع التي نالها مثقفون استدعتهم الدولة لخوض معاركها بالوكالة, والمدهش حقا انه تقدم لمناظرة انصار الدولة الدينية في مواقعهم دون ان يخشي خطرا علي حياته علي الرغم من ان تلك السنوات شهدت اغتيال الكاتب الراحل فرج فودة لكن زكريا كان دائما مستعدا لدفع الثمن خلافا لغيره من مفكري الصالونات الذين فضلوا الابقاء علي افكارهم محاطة بأسوار النخبة. يرحل فؤاد زكريا وهو في صورة أقرب ماتكون لصورة الدون كيشوت او رجل المعارك الخاسرة, فالتفكير العلمي الذي سعي الذي ترسيخه لامجال له الان في مجتمع يقدس الخرافة ويستعيد ميراثا من التخلف, وظاهرة الاصولية التي ناهضها لم تعد مقصورة علي الاسلاميين وانما امتدت لتشمل فصائل وتيارات اخري بما في ذلك الليبراليون واليساريون فالاصولية التي حذر منها تنمو علي حساب الجميع وتلتهم كل ماحولها بما في ذلك ارث فؤاد زكريا نفسه الذي يحتاج الي اعادة قراءة ولا مجال لتلك المراجعة من دون اتاحة اعماله للقراء ومن المؤسف فعلا ان كتاباته كلها لا أثر لها في المكتبات فكتاباته القديمة ومنها التفكير العلمي/ التعبير الموسيقي, الموسيقي والحضارة/ وآفاق الفلسفة وغيرها نشرت في مكتبة مصر التي اختفت من سوق النشر الادبي والفكري في مصر لاسباب تتعلق بمشكلات ورثتها وهي مشكلات راح ضحيتها رصيد هائل من الاعمال الابداعية والفكرية والسؤال الان: هل توجد جهة ثقافية في مصر تستطيع ان تنهض بمهمة اعادة نشر اعمال فؤاد زكريا الكاملة وهل ينجح المركز القومي للترجمة في اعادة نشر ترجماته المهمة التي قدمها لاعمال هربرت ماركيوز وبرتدانر راسل؟ نطرح السؤال فهل من مجيب؟