في صمت.. رحل المفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا.. هذا الخبر طالعتنا به الأهرام في صدر صفحتها الأولي, تقديرا لأهمية ما أداه هذا الراحل من جلائل الأعمال في مجالات التعليم الجامعي والفلسفة الحديثة والفكر والثقافة.. هذا المفكر كان حيث تلتقي به يتأكد لك أنك أمام عقل يقظ, أكثر منه مجرد أستاذ للفلسفة بالجامعات المصرية والعربية أو رئيسا أسبقا لتحرير مجلات فكرية أو مشرف علي سلاسل كتب ثقافية أو مستشار للثقافة العربية باليونيسكو أؤ مؤلف ومترجم لعشرات الكتب.. هو قبل ذلك إنسان احتشم العلم والفلسفة حقا وتكريما للعقل والمعرفة, ومزيج بالغ العذوبة من العمق والبساطة, ومحور متميز من محاور الثقافة العربية. هو باختصار عقل مستنير يدعوك إلي حواره مع احترامه حتي ولو اختلفت معه. ولقد كنت واحدا من تلاميذ, ولأنني مثل غيري من طلاب سنة التخرج بفلسفة عين شمس, فاستفدت من علمه وفكره الكثير الذي قد تسجله هذه السطور القليلة, تعبيرا عما يدينني به من فضل في رثائه في أثناء وجودي هنا بالكويت للمشاركة في ندوة مجلة العربي حول الثقافة العربية في ظل الوسائط الالكترونية حيث تعلمت مع غيري منه أن الفكرة العميقة لا يتعين أن تكون ملفوقة في رداء من الغموض يحجبها عن أذهان الناس, وأن دق التفكير وموضوعيته لا تتعارض أبدا مع رهافة الحس والشعور.. وتعلمنا منه أسلوب الكاتب في التناول الموضوعي حيث لايخاف إذا كتب, ولا يكتب إذا خاف, وفي كلتا الحالتين لايجعل الخوف يفكر له, كما تعلمنا منه أن مقالا واحدا يخلص فيه صاحبه ويجتهد أفضل من عشرات المقالات المتعجلة.. وغير ذلك من دروس تعلمناها منه بالجامعة, وأما بعد التخرج فقد استفدنا منه الكثير سواء بالاتصال المباشر أو غير المباشر عبر كتاباته, فمثلا في مجال الفلسفة كان يري أنها من المؤكد تعيش في حياة كل منا, ان مجرد النطق بكلمة فلسفة أو يتفلسف أو فيلسوف ربما تستفز لدي المتلقي مشاعر غير عادي, فيكون الرد غير عاديا يأسف له وهي بلاش فلسفة لانهاء النقاش, يحدث هذا مع أننا جميعا نعيش الفلسفة في كل تفريعاتها ومشتقاتها, نعيشها دون أن ندري, ونتفلسف دون أن نعي ويصبح أحدنا فيلسوفا دون أن يكون قد أعد نفسه لهذا الدور, ويضرب أمثلة علي ذلك وهي إذا كان لكل منا اسلوب في الحياة, وموقع في المجتمع ورؤية في الكون وتقدير للأشياء ووجهة نظر في الاحداث.. فإنه بهذا الشكل يتفلسف, وإذا ارتقي الواحد منا في تفكيره, اصبح ما يصدر عنه دون قصد مادة فلسفية بصورة خام أو جنينية وإذا اصبح أكثر رقيا في أسلوبه وعمق نظرته وشمول تفكيره اصبح مشروعا لفيلسوف لأن الفلسفة ليست إلا هذه النظرة العميقة والشاملة إلي الكون والحياة والناس والاشياء والأحداث وفي مجال نقد الفكر الذي هو نقد للممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كان يري أن هناك في هذه المجالات معاني بعضها يبلغ من الخطورة حدا أن يعيش الناس في عالم من الوهم ينسجونه بأنفسهم ليصبحوا هم أولي ضحاياة, ذلك لأن الذي يعيش في الوهم عن غير وعي يكون فريسة هنية لمن يشاء أن يأكله, كما كان يري أن الكاتب الذي يترك وطنه بغض النظر عن الاسباب ينبغي أن يحمل معه هموم واحلام وطنه, مع الشعور بحساسية تجاه أي نقد يوجه إلي وطنه في البلد الذي يحل فيه, فليس هناك كاتب حقيقي يسمح بأن يهان وطنه في وجوده, كما كان يري أن التفكير العلمي ليس بالضرورة وقفا علي العلماء وحدهم, بل هو ذلك التفكير المنظم الذي يشترك فيه العالم وغير العالم والذي يمكن استخدامه في شئون حياتنا اليومية, وكل ما يشترط فيه أن يبني علي مجموعة من المبادئ منها استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد أو استحالة أن يحدث شيء من لا شيء. إلي آخر ما تعلمناه من الدكتور فؤاد زكريا رحمه الله من دروس في الجامعة أو الحياة العملية.