بين طوفان القلق ومغامرات المستقبل, بين تجليات التحفز السياسي وأحلام المستحيل, بين غطرسة القوة وتقهقر العدل والشرعية ما أحوج عالمنا المعاصر إلي سيادة لغة التسامح والعفو وإعلاء قيم الحوار والإخاء والعدالة وقبول الآخر بدلا من لغة التناحر والتنابز والفرقة, فما أرقي أن تكون الأديان هي اللغة الإنسانية المثلي التي يمكن عن طريقها رأب الصدع البشري وخلق جسور الوفاق والتسامي علي تلك الصغائر التي أشعلت جنبات الأرض جحيما, فهل تحقق الأديان مشروع عقد اجتماعي بعدما فشلت مختلف وسائل الأيديولوجية السياسية إلا في جعل العنف دستورا وميثاقا وشريعة معاصرة! فلا تزال الفضائل الروحية هي العنصر الفاعل في إقرار السلام الديني والاجتماعي لعالم بات يتأرجح بين الهاوية والهاوية ولا عاصم له إلا العودة لجذور المرجعيات العقائدية المؤكدة لوحدة الإنسانية حين ارتقائها وبلوغها شوطا من التقدم والحضارة. وها هي مفردات الحوارية الإسلامية المسيحية تتجلي بتلك المبادرة العبقرية الداعية إلي أهمية الاعتذار للعالم الإسلامي عن خطايا الماضي وضرورة اعتماد الحاضر ممثلا لتاريخ جديد محوره تأكيد قيم الحوار والتعايش والتواصل الخلاق والألفة الدينية والاحتواء الشعوري, كما تجلت علي صعيد آخر في تلك الاستجابة الرائعة من قبل الكوادر الدينية المسيحية التي طلبت الصفح الجميل من الأمة الإسلامية وطي تلك الصفحات القاتمة إلي غير رجعة, وتكليلا لذلك جاء رد البابا بنيدكت منطويا علي قيم عليا سامحة بتعزيز السلام والسعي نحو التوحد واحترام كرامة الفرد وتبادل الخبرات الدينية والقبول المتبادل والمعرفة الموضوعية بدين الآخر, كما أطلقت مبادرة البابا ميكانيزمات للتعاون من أجل حوار الأديان عن طريق استعداد المجلس البابوي مع معاهد بابوية متخصصة في آليات الحوار الديني تحضيرا للقاء عمل مدعوم من المعهد البابوبي للدراسات العربية والإسلامية والجامعة البابوية الجريجورية وعودة عمل الإدارة التي تشرف علي الحوار مع الإسلام في الفاتيكان, ذلك فضلا عن طرح إمكانية واستعداد البابا بنيدكت للقاء الأمير غازي بن محمد بن طلال رئيس معهد الفكر الإسلامي ووفدا من الشخصيات الإسلامية المشاركة في المبادرة. ولعل هذه الحوارية تكتسب أهميتها في الرؤية المعتدلة من حيثيات كثيرة هي: أنها قد جاءت في أشد الأوقات تأزما سياسيا واجتماعيا وعقائديا في المحيط الدولي, أكدت استمرارية الحوار التاريخي بين الشرق والغرب رغم كل الاختلافات والتباينات طيلة مسيرة حضارية ممتدة, مع كونها قد وضعت حدا للعديد من التجاوزات الصارخة التي يحاول كل طرف إلصاقها بالآخر عند نشوب أي احتكاكات أو مشاحنات ربما تتجه نحو مسار الفتنة الدينية, وأكدت أن الحوارية الإسلامية المسيحية ضرورة حضارية يصعب إهدارها أو التراجع عنها لاسيما في ظل التوعكات الكونية الكبري, وأكدت أيضا أن القيم الدينية المشتركة لا تتغير مهما يطل المدي الزمني بل لا تزعزعها قيم أخري تعلو عليها, كما أنها يمكن أن تطيح بجذور العنف السياسي والاجتماعي الذي يعتمد المرجعية الدينية أساسا أيديولوجيا له, وطرحت فكرة أن التواصل الديني يمنح الحضارة المعاصرة قيمتها ومصداقيتها وتهذيب جموحها وتطرفها, وإضافة لكل ذلك كانت بمثابة النداء الروحي لكل زعماء العالم الإسلامي والمسيحي لنبذ وتحييد السياسات الدافعة نحو الحروب وإعادة توجيه مسار العلاقات الدولية. لكن يبقي السؤال هو لماذا سادت بل استحوذت بعض المصطلحات الطنانة مثل: صدام الحضارات ونهاية التاريخ وغيرها من تلك المصطلحات التي تشيع مضموناتها روح العنصرية والعدائية وغاب الحديث عن حوارية الأديان إلا لأنها تحمل مفتاحا سحريا لتجاوز المآزق وتجنب بؤر الخطر المهددة لعالمنا بأكثر مما تهدد به الحروب النووية.