في مجموعته القصصية الصادرة أخيرا عن دار الشروق بعنوان ساعات والتي تضم حوالي26 قصة قصيرة كتبها خلال العشر سنوات الأخيرة يقتنص الكاتب الكبير جمال الغيطاني لحظات تكشف عن سعي دائم للتعرف علي حقيقة العالم والوجود علي الزمان والمكان وعلي الحياة والموت. لاتحكي قصص المجموعة عن عالم غير مألوف بالنسية لنا, فعلي العكس تغوص تلك القصص في تفاصيل الحياة اليومية بكل أحداثها المألوفة والمتكررة أحيانا, وبكل مشاهدها التي قد تبدو رتيبة ولاتستدعي حتي مجرد التوقف أمامها ناهيك عن تأملها, ولكن وضع تلك الحياة اليومية في كتابة الغيطاني ليس رتيبا ولايبدو الوصف التفصيلي مملا, فالدهشة التي يضعها أمامها الغيطاني هي دهشة إزاء المألوف والمتكرر واليومي, ولاتوجد إلا لدي الأطفال والمبدعين إزاء الحياة وتفاصيلها. ويكتنف الغيطاني تلك النظرة ببراءة إزاء العالم والأشياء المحيطة بنا. اذ يهتم بوصف كل تفاصيل المشهد,للآشياء وللأماكن أهمية لاتقل عن أهمية الأشخاص والأحداث, فالمكان هو حامل قصص الغيطاني وتكفي نظرة خاطفة علي عناوين القصص للتدليل علي أهمية المكان لدي صاحب الزيني بركات( قرطبية, سكن, سعي في لندن آخر الدنيا المأوي القديم, مكتب, حمام محيط. يتأمل الغيطاني مواقف من حياته فالمجموعة يمكن أن تقرأ كسيرة ذاتية يعود فيها الغيطاني الي ذاته ليتأمل خبرته بالعالم ويدونها لنا, ولكن تلك الخبرة تتعدي خبرة ذاته الي خبرة أكثر عمومية, تخصنا جميعا ولا تخص الغيطاني فقط فهي وإن بدت كسيرة ذاتية في بعض القصص إلا أنها تكشف وراءها عن سعي نحو الفهم العميق للعالم المشترك الذي نحياه جميعا. يبدو الغيطاني في قصصه كانسان معاشر للأشياء, يحب العيش وسطها محاولا استكشافها, قصصه مليئة بوصف حي للأشياء, لاتلعب الشخصيات أدوار البطولة بل الأشياء. تهتم ساعات بالكشف عن معني الأشياء ووجودها في حياتنا من خلال مواقف حية كثيرة وتمتزج في جدلية ممتعة فلطالما كان الزمان هما شاغلا للغيطاني لايحيد عنه في كتابته, يرتبط الزمان بالمكان في كتابة الغيطاني عبر الذاكرة التي تحفظ الزمان وتبقيه حيا, ففي مقاطع متعددة يكرر أثر الزمان حتي لو رجعت اليوم التالي لن أجد المكان كما تركته, كما عرفته...مرة أخري أردد لنفسي باستحالة بقاء الأشياء علي ماهي عليه,لو غبت ساعة عن موضع ورجعت ثمة ناقص وزائد وفي مقطع بديع من قصة مكتب يحكي الغيطاني قصة مبني مع الزمان, لايضع الكاتب المبني فيه كشيء جامد بل ككائن له حضور يخفت ويبرق اكتمل نقل الأثاث والأوراق الي المبني الذي أعيدت صياغته, فبدا كأنه مشيد بالأمس مع أن عمره لايقل عن قرن كامل شيده أحد باشوات الزمن القديم أمضي فيه عمرا وجرت حيوات شتي الي أن تحول الي مقر لجريدة معبرة عن أقلية سياسية توقفت قبل الثورة, ثم أصبح مقرا لجريدة( المساء) الوحيدة من نوعها طوال الخمسينيات والستينيات الي أن أصبح مخزنا مهجورا يتبع دار نشر حكومية, ولأنه غير مستخدم لايدخله ولايخرج منه أحد, غاب كثيرا عن الحضور في الشارع أصبح عمارة صامتة,مهملة, معرضة للبلي بل إنني لم ألحظ وجوده طوال سنوات مكوثي الخمس والعشرين في المبني المجاور الذي يعلو ارتفاعه ضعفين, في الطابق الثامن منه مكثت ربع قرنلايترك الزمان شيئا علي حاله ولكن تبقي الذاكرة لتحفظ الأشياء من فعل الزمان. وتلعب اللحظة الماضية من الزمان دورا رئيسيا في المجموعة, فإحساس الإنسان بتقدم العمر ودبيب الوهن يجعله أكثر ميلا للتأمل في حياته السابقة, محاولا استعادة الزمان مرة أخري ولكن يدرك الإنسان إستحالة ذلك فقصة نفس تتحدث عن عم احمد الساعاتي الماهر الذي قضي أكثر من خمسين عاما في إصلاح الساعات ثم إكتشف انه لم يرد تلك المهنة ويتمني لو انه كان قد اختار غيرها. وفي قصة مكتب أيضا يتبدي إحساس بانقضاء الوقت والاستعداد للرحيل فالقصة تتحدث عن موظف لم يتبق له سوي عدة أشهر علي المعاش ويعرض عليه تجديد مكتبه فيرد إنك تعمل لغيري, لم يتبق إلا شهور وأصل سن التقاعد وفي نهاية القصة يرد علي سؤال الموظف الآخر إن كان يريد مكتبة تكسو الجدار الآخر أم لا بالقول أتطلع إليه, هل يسألني أنا أم يستفسر من أجل القادم بعدي؟ يتبدي هنا سؤال عن الزمان من خلال الإلحاح علي فكرتي الحياة والموت. نوم يدانيني حيث لا أتوقع, ويشملني عندما لاأدري, نوم يطلبني يمضي إلي ولا أسعي إليه, يأتيني عندما لا أرغب يأخدني علي مهل, باسترخاء دون مستفزات أو عثرات, لم أشك للأقربين ولم أبد انزعاجا ولم أفكر في استشارة طبيب كأنني أخشي أن افشي سرا ائتمنني عليه من أجهل, من لا أعرف بل انتبهت فجأة إلي توقي للقائه عند بدء شموله لي, وتزايد أوقات التوالج والإنسحاب يطل شبح الموت من هذا المقطع من قصة نوم مقترنا باستسلام مريح لإنفلات الزمان وانقضائه, تحمل القصة تأملات عميقة حول الزمان في أوقات النوم والغفوة تختبيء وراء السطح الهاديء للقصة التي يحكيها الغيطاني للأنثي حضور هائل في تلك المجموعة, يقترب الغيطاني من الأنثي عبر باب الجسد, يضعك وصف لجسد المرأة في بعض المقاطع أمام حضور مختلف للمرأة فهو يعيد تعريفنا علي المرأة مرة أخري بحس أدبي رفيع. ففي مقطع عن قصة شغالة ردا علي قول الشغالة( أهلا يا بك...انا الشغالة الجديدة.. يرد صاحب المنزل بل أنت قديمة عتيقة جدا تماما كالخلق الأول بلا تزويق بلا تنميق, بلا زيادة أو نقصان, الأنثي في مصدرها الأول, توسط قامتها, وقوة بنيتها الواضحة مع كمال استدارتها ورحابة حوضها الداعي إلي لم الشمل, والتئام الجمع ونهاية الفرقة وانطواء البعد. وتزخر المجموعة بقصص تتناول المرأة من أوجه عدة المرأة في نصوص جمال الغيطاني لها مشص ففي قصة صفاء تمثل الأنثي الدفء الأمومي والهدوء ففيها يضفي حضور الأنثي الطمأنينة والسكينة وفي قصة شغالة يمثل الحضور الأنثوي الإنكسار والخضوع الذي يستنفر ويستفز ضجيج الرجولة المكتوم في قصة قرطبية يمثل الحضور الأنثوي كمال وإتقان التكوين ففيها يتمثل حضور الجسد الأنثوي الكامل وانطلاق الشباب في مقابل هم الشيب في رمزية تشير الي الزمان غير القابل للاستعادة