أظن أنني لن أضيف جديدا عندما اؤكد إدانة المحرقة النازية التي أشعلها هتلر, كما لن أضيف جديدا عندما أؤكد أيضا أنها جريمة كبري لا يمكن نسيانها, بل ويجب أن نتذكرها علي الدوام, فهي كارثة بكل المقاييس ووصمة ينبغي أن تظل صاحية في الضمير الإنساني, ولا يهم هنا بطبيعة الحال عدد من أحرقوا, هل هم ثلاثة ملايين أو ستة ملايين يهودي لم يرتكبوا إثما بل مجرد ضحايا أبرياء.. وفي كتاب العرب والمحرقة النازية.. حرب المرويات العربية الإسرائيلية لجلبير الأشقر الاستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وترجمة بشير السباعي, وصدر بالاشتراك بين المركز القومي للترجمة ودار الساقي أخيرا, لا يدين المحرقة( الهولوكوست) شأنه شأن كل من ينتمي للبشر فقط, بل يولي عنايته في المحل الاول لحرب المرويات المتعارضة التي تدور حول المحرقة النازية لليهود من جانب, ونكبة الفلسطينيين الذين استولت الحركة الصهيونية علي وطنهم وحولت القسم الأعظم منهم إلي شعب من اللاجئين. اللافت للنظر هو حجم المراجع والكتابات والصحف والشهادات التي يعتمد عليها في رصد وفحص المرويات من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وبسبب إجادته للغة العربية, فهو من أصل لبناني, قرأ أصولا دون وسيط, مما مكنه من الفحص المتأني, وعلي سبيل المثال فقط, يقارن بين النص العربي لسيرة السادات الذاتية التي كتبها بعد زيارته للقدس, وبين النص المترجم إلي الانجليزية, مؤكدا أن رواية السادات المكتوبة بالعربية قد تعرضت لتلخيص شديد وأعيدت صياغتها تحويرها بشكل اعتباطي من جانب مترجمها إلي الانجليزية. ويضيف: وهذا مهم, فما يجري الاستشهاد به دوما تقريبا هو الترجمة الانجليزية والترجمات عن الانجليزية إلي لغات أخري, وليس النص الوحيد الذي يستحق الاستناد إليه, أعني الأصل العربي للكتاب. من جانب آخر, يكاد المؤلف أن يقسم عمله إلي قسمين رئيسيين الأول زمن المحرقة, والثاني زمن النكبة والأهم أن النكبة من زوايا متعددة إحدي نتائج المحرقة, بل هي النتيجة الأساسية للمحرقة, غير أنه قبل الدخول إلي متن الكتاب ذاته, يقدم في سياق ضبط المصطلحات عددا من الاحصائيات والأرقام والوقائع الوفيرة, التي لا تكتفي بالكشف عن حقائق جديدة تماما, تتناقض مع ما تم ترسيخه, إنما يستخدمها أيضا في متن الكتاب بقسميه الرئيسيين, بحيث يعيد مرة أخري بناء المسرح الذي جرت فوقه أكبر عملية تزييف في التاريخ المعاصر. فعلي سبيل المثال, يفحص مصطلحات شائعة مثل الصهيونية, الاستعمار, الاقتلاع من الوطن. وفيما يتعلق بالصهيونية, فإن الفلسطينيين اعتبروا المشروع الصهيوني الذي طرحه هرتسل شكلا خاصا من أشكال الاستعمار الأوروبي, خصوصا بعد رسالة وزير الخارجية البريطاني بلفور التي وجهها للحركة الصهيونية وأعلن فيها تأييد إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي وما أعقب هذا من تزايد معدلات الهجرة اليهودية التي زادت عشرة أضعاف في ظل الانتداب البريطاني, وفي الوقت نفسه لم تتوقف مقاومة الفلسطينيين ووصلت إلي حد الثورات العارمة ضد الانتداب. لذلك يتوقف المؤلف طويلا عند هذه النقطة, مؤكدا أن أصول النزاع اليهودي العربي, والاستيطان الصهيوني, يرجع إلي ما قبل عام1933 عندما استولي النازيون علي السلطة في ألمانيا, وفي الوقت نفسه فإن برنامجهم المعادي للسامية, كان هو القاطرة التي سمحت بتحقيق المشروع الصهيوني, ومن ثم إقامة إسرائيل, وبتعبير المؤلف فإن دولة اليهود تدين بقيامها إلي المحرقة( الهولوكست) بل إن هتلر نفسه شدد علي تشجيع الهجرة اليهودية, ورأي أن علي فلسطين أن تظل وجهة أولي للاجئين اليهود الألمان, فقد كان النازيون يريدون تحقيق هدفهم العنصري بتطهير حسب تعبيرهم بلدهم من اليهود, والأخطر أن الجستابو ومصلحة الأمن تعاونا مع منظمات صهيونية سرية في تنظيم الهجرة غير الشرعية للاجئين اليهود, بالرغم من الحصار البريطاني الذي كان مفروضا آنذاك علي الهجرة إلي فلسطين. وفي هذا السياق فإن الارقام وحدها تتحدث فهناك53000 يهودي اتجهوا من المانيا وحدها إلي فلسطين بين عامي1933 و1939, وشكلوا ربع اليهود المهاجرين, وفي عام1939 ارتفعت نسبتهم إلي52 بالمائة ولتسهيل الهجرة عقدت السلطات النازية اتفاقا مع ممثلي الوكالة اليهودية, تسمح للمهاجرين بتحويل جزء من أرصدتهم علي شكل سلع مستوردة من ألمانيا والحال أن صعود النازيين للحكم كان مفيدا بشدة للحركة الصهيونية والحال أيضا أن المحرقة كانت مفيدة للحركة الصهيونية, خصوصا بعد أن تواطأت الولاياتالمتحدة وبريطانيا وعدد آخر من الدول الأوروبية مع الحكومة الألمانية بالصمت أو بالتنصل من التدخل بعد تزايد موجات العداء للسامية في ألمانيا ووصلت إلي حد المذابح المعروفة بليلة اكريستال عام1938. واتخذ التواطؤ الشكل التالي أثناء عقد مؤتمر دولي دعا إليه الرئيس الأمريكي روزفلت وعقد في ايفيان بفرنسا بين6 15 يوليو1938 للنظر في مصائر اللاجئين اليهود من ألمانيا والنمسا, وحضره وفود من32 بلدا, ومع سير أعمال المؤتمر اعتذر مندوبو هذه البلدان, بلدا بعد بلد, عن عدم قبول المزيد من اللاجئين اليهود, ولم توافق إلا جمهورية الدومينكان الصغيرة في أمريكا اللاتينية وتبرعت بتخصيص مناطق للاستيطان الزراعي. كتب الأشقر: والحال أنه جراء هذه المجموعة من الظروف التاريخية وجدت الفاجعة اليهودية التي بلغت ذروتها في الجائحة الشعواء المحرقة تتجه لها في المأساة الفلسطينية, النكبة, فالنكبة الفلسطينية تنبع من الكارثة اليهودية. ويضيف ان وجود الحركة الصهيونية كان أولا وأساسا رد فعل علي معاداة السامية, والهجرة اليهودية إلي فلسطين كانت نتيجة منطقية لمعاداة السامية, بل ان المحرقة كانت احدي الاسباب الاساسية لتأسيس الدولة, واذا اضفنا إلي هذه الهجرة, الناجين من معسكرات الاعتقال, أي من مشروع هتلر الابادي آلافا آخرين من اليهود فإن تأييد خلق دولة إسرائيل كان هو الاسلوب الذي حلت به امريكا الشمالية وأوروبا والاتحاد السوفيتي دون ثمن, المشكلة المحرجة المتمثلة في هذا الحشد من التعساء الذين لم يرغب الأمريكيون والأوروبيون في استقبالهم. والحال أن الحقائق القديمة لا تزال صالحة لاثارة الدهشة علي حد عنوان أحد أعمال الكاتب الراحل يحيي الطاهر عبدالله, والوقائع القديمة والأرقام القديمة.. كل ذلك ينبغي استدعاؤه والحديث حوله بعد أن جرت في النهر كل هذه المياه, وبعد أن تم التهام90 بالمائة من التراب الوطني الفلسطيني, وأصبح كل الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة أو حتي ما يطلق عليهم عرب إسرائيل يعيشون في معسكر اعتقال ضخم لا يكاد يختلف عن معسكرات النازية التي استضافت الآلاف من اليهود بعد صعود هتلر الي السلطة. ينتقل الأشقر بعد هذا إلي متن الكتاب: أي زمن المحرقة في قسم مستقل, ثم زمن النكبة في قسم مستقل آخر. يهتم الكاتب علي نحو خاص بردود الفعل العربية علي النازية ومعاداة السامية خلال الفترة من1933 إلي1947 أي عشية النكبة وقبل قيام الدولة العبرية كذلك يفحص مواقف التيارات الفكرية والسياسية المختلفة, فالليبراليون من دعاة الاستقلال عارضوا النازية منذ البداية ولم يخفف هذا بأي حال من عداوتهم للصهيونية وهي عداوة ترتبت علي معاداتهم للاستعمار. وفي هذا السياق لخص الاشقر القضية في السؤال التالي: لماذا يجب علي الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن جرائم النازية؟ يفحص الأشقر ويدقق في مجلة الرسالة لأحمد حسن الزياتي والتي كان ينشر فيها كبار المفكرين العرب من الاتجاهات والتيارات المختلفة, كما يفحص مجلة الهلال, وكذلك مواقف القوميين العرب اللييراليين وفي مقدمتهم عبدالرحمن عزام, ووقائق المؤتمر النسائي العربي المعقود في أكتوبر عام1938 تضامنا مع فلسطين, ثم مؤتمر لندن في العام التالي. أما موقف مؤسسي جامعة الدول العربية في الاجتماع المنعقد في أكتوبر1944, فقد كان حاسما عندما أعلن القرار الخاص بشأن فلسطين علي النحو التالي: وتصرح اللجنة بأنها ليست أقل تألما من احد لما أصاب اليهود في أوروبا من الويلات والآلام علي يد بعض الدول الأوروبية الديكتاتورية, ولكن لا يجب أن تخلط بين مسألة هؤلاء اليهود ومسألة الصهيونية, إذ ليس أشد ظلما وعدوانا من أن تحل مسألة يهود أوروبا بظلم آخر يقع علي عرب فلسطين علي اختلاف اديانهم ومذاهبهم. علي هذا النحو التفصيلي يعيد الاشقر فحص مواقف الماركسيين والقوميين, وكلاهما لم يثبت بأي حال من الأحوال عداءهم للسامية, بل علي العكس تماما لكن التعاون والتنسيق والعمل المشترك بين دول المحور من جانب, وبعض العرب والفلسطينيين من جانب آخر, فكان مقصورا علي انصار الجامعة الاسلامية من الرجعيين والسلفيين, وهم علي وجه التحديد رشيد رضا وأمين الحسيني وشكيب ارسلان. إذا كان هذا هو زمن المحرقة, فماذا عن زمن النكبة؟. لعلي أعود في الاسبوع القادم إلي هذا الزمن الذي يحتاج إلي مساحة مستقلة ومقال آخر.