أعلم أن كل رأى ينشر بهذه الصفحة لا يعبر إلا عن موقف صاحبه، بيد أن معرفتى بهذه الحقيقة لم تنجح فى امتصاص صدمة العنوان الذى طالعتنى به صفحة "آراء" صباح يوم الخميس 19 فبراير 2009، فقد كان نص العنوان هو "الهولوكوست حقيقة"! هكذا بكل هذا الحسم جاء العنوان بمبتدأ "الهولوكوست" ليزف إلينا خبره، أعنى كونه "حقيقة" تتحدى عجز المؤرخين عن العثور على وثيقة نازية واحدة توثق للمحرقة أو لما ظلت آلة الصهيونية العالمية تروج له من وجود "حل نهائى" اعتمده هتلر لتصفية اليهود! حسم صاحب المقال إذن ما حار فيه أساتذة "علم" التاريخ فى الغرب، قبل نظرائهم فى الشرق، فلم يعثروا له على أثر، اللهم إلا بمقدار ما عثر "علماء" الآثار على أطلال "هيكل سليمان"! تابعت المقال علنى أجد فيه حقائق "تاريخية" جديدة تحسم القضية المفتوحة على استحياء فى دهاليز العلم الخلفية، فلم أجد إلا آثار "الطيبة المصرية" التى تذكرنى بذلك الدب "الطيب" الذى أبعد الذبابة عن صاحبه بأن هشم رأسه! ولولا هذه الرأس التى أخشى عليها من حجر "النوايا الطيبة" لما أزعجت القارئ الكريم بهذا المقال. بداية – وكى لا ينجرف بنا الظن بعيداً عن مقصد المقال – أؤكد بأن قتل أى نفس بشرية بغير الحق هو عمل إجرامى حتى ولوكانت الضحية نفساً واحدة لا غير، كما أؤكد أن الدعوة لاضطهاد اليهود لمجرد أنهم ينتمون لثقافة مغايرة هو فعل غير حضارى يجب الوقوف فى مواجهته بكل حزم؛ فكل شعب له حق الوجود الإنسانى مثل غيره من بنى البشر، وليست له – فى نفس الوقت - حقوق أخلاقية تتجاوز حقوق غيره؛ ومثلما لا يوجد فى دماء اليهود ما يهبط بهم عنصرياً إلى مرتبة دون مرتبة الإنسان، فإنه لا يوجد فيها أيضاً ما يرتفع بهم إلى مرتبة تعلو مرتبته. تأسيساً على هذه المبادئ الإنسانية العامة فإنه ليس فى نيتى أن أدافع عن النازية، كما ليس فى نيتى أن أنكر ما "يدعيه" اليهود من معاناة يرون أنهم عاشوها بسبب ما "يدعونه" من تاريخية المحرقة؛ وأستخدم هنا لفظ "الادعاء" بالمعنى القانونى للكلمة، فاليهود أصحاب "قضية" يختصمون فيها ألمانيا النازية، وقد يختصمون فيها أيضاً روسيا القيصرية، وبعض البلدان الأوروپية الأخرى؛ ولأهل هذه البلدان التى يختصمها اليهود أن يعترفوا بالمحرقة أو أن ينكروها، فهم "المدعى عليهم" لا نحن، وهذا شأنهم لا شأننا؛ لكن الأمر يبدو لى طريفاً حين لا يكتفى اليهود فى هذه "القضية" بدور الادعاء وإنما يتجاوزونه إلى دور الشهود وقاضى الأحكام وقاضى التنفيذ فى آن واحد، كما يبدو الأمر لى أكثر طرافة حين يطلب اليهود من شعوب ليست طرفاً فى هذه المحرقة، ولا هى كانت شاهدة عليها، بأن "تعترف" بالمحرقة، إذ لا أعرف فى هذه الحالة ماذا يعنى فعل "الاعتراف"! "الاعتراف" كما نعرفه لغوياً إنما يعنى – ببساطة - أننا نقر بالجرم، وبأننا ضالعون فيه؛ بينما يعرف اليهود أكثر من غيرهم أنهم عاشوا بين ظهرانينا طوال قرون لا يضطهدهم إنسان فى بلادنا، وإنما كان منهم الوزراء، وكان منهم أرباب التجارة والمال، بل وكان منهم أهل الفن والفكر فى بلادنا، ولم يحدث أن منع المصريون مواطنيهم اليهود من إقامة معابدهم فى قلب العاصمة المصرية؛ وحتى فى أوج المد الناصرى فى مصر كان هناك فنانون يهود يعتلون خشبة المسرح المصرى، وتظهر أسماؤهم على شاشة السينما المصرية، ويصفق لهم جمهور المصريين استحساناً، ولم يحدث أن أصدرت مصر يوماً قراراً بالتمييز السلبى ضد اليهود، أو بإبادتهم، أو بنفيهم خارج البلاد. الأمر إذن باختصار لا يعنينا، فلسنا فى منصة الادعاء، ولا نحن فى زنزانة الاتهام، ولا نحن مطلوبة شهادتنا فى جريمة لم نشهدها ولا علم لنا بها إلا بما يقول به أصحاب "الادعاء"! "الاعتراف" هنا يكون اعتراف "شاهد ما شافش حاجة"، ويجعلنا مجرد أمة مغلوبة على أمرها، تساق إلى المحكمة لتشهد بما لا تعرف خوفاً من أن "تلفق" ضدها تهم لا تعرف عنها شيئاً! وإذا لم تكن قضية الهولوكوست قضيتنا، فما هو معنى أن نتورط فيها إنكاراً أو اعترافاً؟! وما هو مبرر ضمها - قبولاً أو رفضاً - لقاموس الحقائق العلمية التى نتعامل معها؟! أطرف من ذلك كله قول صاحب المقال – بكل "طيبة" المصريين – إنه "لا التشكيك فى عدد الضحايا يمحو عقدة الذنب الأوروپية والتعاطف مع إسرائيل، ولا نفى الرواية من أصلها يعيد أرض فلسطين المسلوبة إلى أصحابها"؛ ودعونا نسأل صاحب المقال – بكل التقدير لحسن نواياه – وهل التأكيد بأن الهولوكوست "حقيقة" يعيد أرض فلسطين لأصحابها؟ وهل عدم التشكيك فى عدد الضحايا ينهى حالة التعاطف الدولى مع إسرائيل، أو هو – إذا شئنا دقة التعبير – "الدعم" الدولى لها؟! الأطرف من كل هذا هو دعوة صاحب المقال – بكل "طيبة" المصريين - لأن يتولى تحالف دولى محايد مهمة التحقيق والتوثيق والاتهام، وألا تنفرد بذلك منظمات صهيونية تخصصت فى إحاطة جريمة الهولوكوست بهالة القدسية التى تبعدها عن متناول البحث والتدقيق التاريخى! والسؤال هنا هو كيف سيتم تكوين هذا التحالف الدولى المنشود لتناول قضية الهولوكوست فى قاعات التوثيق والتدقيق العلمى دون أن يعنى ذلك ضمنياً – وفق أبسط قواعد البحث العلمى – الإقرار بحق الشك فى صدق الرواية التى جعلها صاحب المقال "حقيقة" دون أى تمحيص علمى! وهل تسمح الأوضاع الدولية الشاذة بقيام جهة علمية ببحث محايد عن "تاريخية" المحرقة النازية، أو عن "حقيقة" عدد ضحايا المحرقة، دون اتهام هذه الجهة العلمية بمعاداة السامية؟ خطورة العنوان الذى اختاره صاحب المقال، أعنى دعوته لنا للاعتراف المجانى بأن "الهولوكوست حقيقة"، لا تكمن فى حقيقة رواية المحرقة من عدمها، فالأمر كما أسلفت لا يعنينا؛ وإنما تكمن خطورة العنوان فى كونه يدعونا ضمنياً لأن ننصب محرقة للحقيقة العلمية ذاتها؛ فالحقيقة العلمية لا تقوم بقانون يصدر عن جهة تشريعية، ولا هى تقوم باعتراف شهود تحت الإكراه لم يحضروا الواقعة.. وسواء كان موضوع الحقيقة العلمية هو التاريخ أو الجغرافيا أو الآثار أو الأنثروبولوچيا، أو مزيج من كل هذا مجتمعاً كما هو حال الظاهرة الإسرائيلية، فإن مكان البحث فيها هو قاعات العلم، بحياد ودون أحكام مسبقة؛ أما الوقائع التى ترقى لمرتبة "الحقيقة" قبل البحث فيها فهى تدخل فى نطاق ما كتبه صاحب المقال نفسه فى نهاية مقاله، أعنى إقراره بأن إسرائيل ماضية فى خطة لا تقبل الشك لتطبيق نظرية الحل النهائى على شعب فلسطين، وقد أضيف من عندى أن "الحل النهائى" الذى تريده إسرائيل لا يتناول الشعب الفلسطينى وحده، وإنما هو أكثر طموحاً من هذا بكثير! بصدور قرار التقسيم سنة 1947 امتلكت إسرائيل شرعية قانونية، لكنها بقيت – رغم قرار التقسيم – تفتقر إلى شرعيتين لا يمكن لأى قرار دولى أن يمنحها أياً منهما، أعنى الشرعيتين التاريخية والأخلاقية؛ فإذا نحن "اعترفنا" بالمحرقة، كما يدعونا إلى ذلك صاحب المقال، لكان هذا بمثابة منحة مجانية لإسرائيل تكسبها شرعية أخلاقية هى تفتقر إليها منذ مذابح دير ياسين وما قبلها وما بعدها؛ ودعونا نسأل أنفسنا سؤالاً متواضعاً عن ماذا لو أن إسرائيل - ومن يقف وراءها - تبنوا قراراً يقول ب "حقيقة" أن إسرائيل فى دير ياسين إنما كانت تدافع عن نفسها فى مواجهة محرقة كان يدبرها العرب ضد اليهود؟! وماذا إذا صدر قرار بأن هيكل سليمان "حقيقة تاريخية"، أو بأن لإسرائيل حقاً تاريخياً وأخلاقياً يمنحها حق السيادة على الأرض الممتدة من الفرات إلى النيل، ومن ثم يعتبر حروبها ضد مصر وغيرها من بلدان شرق المتوسط حروب تحرير لا اغتصاب، فهل سنعترف بهذه "الحقائق" حتى نكتسب "مصداقية" فى مخاطبة العالم؟ إذا كان للمقال الذى استفزنى عنوانه من فائدة – وفائدته مؤكدة – فهى كونه دعوة مفتوحة لمناقشة رؤيتنا لأبعاد حركة التاريخ التى تكاد آلتها تطحن عظامنا دون ان ندرى؛ فلنحدد إذن – ولكن بعد تقليب الأمور وحرث أرض الأفكار – ما هى حقائق حركة التاريخ، وما هى أوهامها؛ ولتكن لدينا شجاعة الاعتراف بأخطائنا إن وجدت، شرط أن لا يكون من بين هذه الأخطاء أننا لم نشارك بالقدر الكافى فى محرقة "الحقيقة"؛ فالحقيقة هى كل ما سيبقى لنا إذا ما استمرأنا ما نحن فيه، وضاع منا بالتبعية كل ما عداها. الحقيقة العلمية الأجدر بأن نلتفت إليها وبأن "نعترف" بها هى حقيقة ما تقول به أرض واقعنا المهين، حتى صرنا نرفض ما يجب أن نقبل، ونقبل ما يجب أن نرفض، وندعو لقبول "حقيقة" ليس عليها برهان، وندحض "حقائق" يؤيدها ألف برهان! حتى لقد صرنا نجرم من يتعامل مع الحقائق العلمية التى تنتجها معاهد العلم فى إسرائيل بحجة رفض التطبيع، وندعو للاعتراف بادعاءات الدعاية الصهيونية فنرقى بها إلى مرتبة "الحقيقة" العلمية! وكأننا مصرون على أن تكون سيرتنا فى التاريخ كسيرتنا فى شوارعنا، دائماً عشوائية، وفى كثير من الأحيان عكس الاتجاه!