تحت عنوان (عقيدة الاختلاف على صفحات «المصرى اليوم»)، أشار رئيس تحريرها الزميل «مجدى الجلاد»، فى مقال نشرته يوم الأربعاء الماضى، إلى أن «المصرى اليوم» تفتح صفحاتها لكل صاحب رأى، ولا تخضع لجهاز التفتيش ونظرية المؤامرة، وأن هذا هو السبب وراء حيوية وتدفق مقالات الرأى، وتفجر المعارك - التى وصفها «الجلاد» بأنها إيجابية بين كتاب وأقلام الجريدة، «دون تدخل منا أو حجر على قلم لصالح آخر». وبصرف النظر عن الأمثلة التى ضربها رئيس تحرير «المصرى اليوم» ودفعته لكتابة مقاله، فإن الأمر يتطلب وقفة عند أدبيات نشر التعليقات ومقالات الرأى فى الصحف المصرية، بعد أن سادت لدى بعض كتاب الرأى بل بعض رؤساء تحرير الصحف مفاهيم مهنية خاطئة فى هذا الشأن. أكثر هذه المفاهيم الخاطئة شيوعاً هو الفصل التعسفى بين «الخبر» و«الرأى»، من حيث المحكات المهنية لنشر كل منهما، فهناك تسليم بأن الأول ينبغى أن يخضع لهذه المعايير المهنية، من حيث التثبت من صحته بالعودة إلى كل أطرافه، وعدم نشره ناقصاً أو مبتوراً، وانطباق عنوانه على نصه، وعدم تلوينه بموقف الصحفى أو الصحيفة، أما الثانى فهو من حق صاحبه، لا تجوز محاسبته أو محاسبة الصحيفة على نشره، مهما قال فيه. وما ينساه الذين يشيعون هذا المفهوم الخاطئ هو أن «الرأى»، خاصة إذا كان يتعلق بشؤون جارية، هو تعليق على خبر، نشرته الصحف، أو توصل إليه صاحب الرأى عبر مصادره الخاصة، وحتى يمكن اعتباره «رأياً» لابد من التثبت من أنه يستند إلى «خبر» أو معلومات صحيحة قبل نشره، وما أكثر مقالات الرأى التى يعلق أصحابها على أخبار سبق تكذيبها، أو تصريحات سبق تحريفها، ولا يزال بعض أصحاب الرأى فى الصحف والفضائيات المصرية والعربية، يستندون إلى الخبر الكاذب الذى قال إن أربعة آلاف يهودى أمريكى ممن كانوا يعملون فى برجى التجارة بنيويورك قد تلقوا قبل يوم من تفجير البرجين فى 11 سبتمبر 2001، تحذيراً بالغياب عن العمل، للتدليل على أن «الموساد» هى التى فجرت البرجين، بعد اعتراف «أسامة بن لادن» بأنه الذى خطط للعملية. وإذا كان من الصحيح أن من حق كل مواطن أن يبدى رأيه أثناء جلوسه على المقهى فى كل ما يعنُّ له، من أسعار رغيف الخبز إلى تكنولوجيا الفضاء، ومن أفلام السينما إلى خريطة الجينوم البشرى، فإن من الصحيح كذلك أن ما يقال على المقاهى وتنطبق عليه نظرية «الكلام ماعليهش جمرك» و«قول أى كلام فى أى موضوع يجيب نتيجة» لا يصلح بالضرورة لأن يكون مقال رأى ينشر فى الصحف بدعوى الدفاع عن حرية الرأى، فالنشر فى الصحف عليه جمرك أو مخاطبة الناس من المنابر العامة، ليس أى كلام فى أى موضوع. والناشر مسؤول عن التثبت من أن وراء هذا الرأى خبرة ومعرفة وتخصصاً فى الشأن الذى يتناوله، وأن لدى صاحبه موهبة الكتابة الصحفية بأسلوب يوصل أفكاره إلى القارئ.. لذلك تخصص الصحف زوايا لنشر آراء القراء بعد إعادة صياغة بعضها وتخليصه من ثرثرات المقاهى وكركرة الشيشة، بينما تحتفظ بحق النشر فى صفحات الرأى والأعمدة الثابتة لكُتاب تعتقد أنهم مؤهلون لمخاطبة الرأى العام، ولديهم رسالة واضحة تحقق مصلحة عامة، مهما اختلفوا فيما بينهم فى السبل التى تحقق هذه المصلحة! ونظرة عابرة إلى بعض ما تنشره الصحف من مقالات رأى، تكشف عن شيوع مفهوم خاطئ لدى كثيرين من الكُتاب، خاصة الشباب منهم، بأن مقال الرأى لا يكون كذلك، إلا إذا شرشح الكاتب أحد الكتاب أو الشخصيات المسؤولة أو المعارضة، حسب موقفه، وحسب موقف الصحيفة التى يكتب فيها، ولعن سنسفيل جدوده، وأشاع أن أمه كانت غسالة، وجدّه الأكبر كان بائع طرشى، وأنه عميل لأجهزة الأمن، أو ل«دول الممانعة»، والمصطلح الشائع بينهم هو أن فلاناً «هَبَدَ» فلاناً مقالاً، حتى فكرت بعض الصحف فى تغيير عنوان «صفحة الرأى» إلى صفحة الهَبْدْ، ووراء شيوع هذا النمط من المقالات تصور خاطئ لدى بعض هؤلاء، بأنهم يرضون قارئاً ساخطاً على كثير مما يوجب السخط من أحوالنا العامة، ويحققون شعبوية تافهة، سرعان ما تتبدد، وتاريخ الصحافة المصرية نفسه شاهد على ذلك! الأساس المهنى فى نشر مقالات الرأى فى الصحف المصرية هو احترام حق الاختلاف بالتسليم بأن كل رأى هو اجتهاد فى الشؤون العامة، يسوقه صاحبه بهدف خدمة مصالح عامة، ما لم يثبت بحكم قضائى - العكس، وأن كل اجتهاد يقبل الصواب والخطأ، وليس من حق أحد أن يحتكر لنفسه الوطنية والإيمان والصواب، ويرفض إدخال كل من يتخيل أن يختلف معه فى الرأى، أو يصطنع هذا الاختلاف لمجرد «هبده» مقالاً، الفردوس، أو أن يتطاول على مقامهم، وصاحب الرأى الحقيقى هو الذى يقارع الحجة بالحجة، ويرد على المنطق بالمنطق ويتعفف عن السقوط فى مستنقع الشتائم، وهو الذى يفصل بين الخلاف مع الرأى والخلاف مع الشخصية! وسواء كان الخلاف فى الرأى يدور بين كاتبين فى صحيفة واحدة أو بين صحيفتين أو يتعلق بشخصية عامة، فإن رئيس تحرير الصحيفة هو المسؤول مهنياً فضلاً عن المسؤولية القانونية بالطبع عن كل ما يُنشر فى جريدته، سواء كان خبراً يفتقد الشروط المهنية أو كان رأياً يفتقد هو الآخر العناصر المهنية التى ينبغى أن تتوافر فى كل مقال رأى. وإذا كان من حق «المصرى اليوم» كما قال مجدى الجلاد ألا تخضع مقالات كتابها لجهاز التفتيش ونظرية المؤامرة، فمن واجبها أن تخضعها لجهاز أدبيات المهنة ولنظريتها الأخلاقية، وألا تتنصل من مسؤوليتها عن بعض ما ينشر على صفحاتها من مقالات تفتقد جوانب من ذلك، بدعوى أنها تصون حرية الرأى، حتى لا تكتشف بعد قليل أن ما تصونه هو «حرية الهَبْدْ».