تلقيت مكالمة هاتفية رقيقة وأنيقة ومهذبة من شخصية مصرية ذات حيثية طالبني فيها صاحبها أن أكون أكثر رأفة بمصر التي قال انني أقسو عليها كثيرا في كتاباتي, وأنني كثيرا ما أميل إلي عدم رؤية الجوانب المضيئة وقال أشعر أنك تضغطين علي مصر أكثر مما ينبغي, والتقطت هذه العبارة, وحاولت أن أرد علي تعليقه مازحة الجد بالهزل, فقلت: طبعا طبعا! ماهو إحنا لو ضغطنا عليها أكثر من كده ممكن تفرقع! والحقيقة أن نسبة الجد فيما قلت كانت تفوق نسبة الهزل بكثير, فلدي شعور جارف بأننا أوشكنا علي الفرقعة لو تعرضنا لأقل ضغط إضافي وحتي لايؤول كلامي أو يساء فهمي أو يفسر في ضوء نظريات شريرة, فما أقصده بالفرقعة هنا هو أن كلا منا باتت روحه في مناخيره واللي فيه مكفيه وليس في حاجة إلي أي مشكلات أو ضغوط إضافية, وإلا تعرضنا لخطر الانهيار العصبي, أو الفرقعة النفسية. وفكرت لوهلة في الملحوظة التي جاءتني عبر الهاتف, وأضفت إليها الأجواء الاحتفالية بعيد الفطر المبارك, وقررت ان تكون صفحة اليوم منزوعة العكننة وخالية من اي تلميحات أو إسقاطات أو تنويهات لأي منغصات تكدر حياتنا. وبدأت بالفعل في الكتابة, ووجدت نفسي كالتلميذ الخايب الذي وجد نفسه فجأة في قاعة الامتحان, ومطلوبا منه أن يملأ ورقة الإجابة بجمل وكلمات وعبارات عن موضوع سقط منه سهوا من المنهج, فلا هو قرأه في الكتاب, ولا سمع مدرس الفصل يشير إليه, ولا حتي مدرس مركز الدروس الخصوصية ينوه عنه من قريب او بعيد. كتبت المقدمة التي ذكرت فيها أن رمضان, رغم نفحاته الجميلة وأجوائه المميزة, الا أنه أصاب أغلبنا بحالة من الضعف والهزل وعدم التركيز, ربما لحرارة الجو, أو ارتفاع الرطوبة, أو لانقطاع التيار الكهربائي, أو لضعف ضخ مياه الشرب, أو للشلل المروري المتصل, أو لارتفاع الأسعار غير المبرر وغير المنطقي وغير الأخلاقي وغير الخاضع للسيطرة, أو ربما لتصريحات المسئولين الضاربة في اللا معقوليزم أو المفرطة في اللا اهتماميزم, وبالتالي فنحن نستحق أن نحتفل بعيد منزوع الهموم وخال من المشكلات. وبعد كتابة المقدمة, تعثرت كثيرا, وجلست مثبتة أمام شاشة الكمبيوتر لمدة تزيد علي الساعة وأنا حائرة. فقد قررت أن تكون صفحة العيد بلا هموم, ولكن ما حدث كان مذهلا بحق! لم أجد ما أكتب عنه! آه والله! هل أكتب عن أخلاقيات رمضان في الشارع التي تفوقت علي نفسها هذا العام في عدم تحمل الناس لبعضها والفصل التام بين الامتناع عن الطعام والشراب ورفع شعار العمل كالمعتاد في كل مايختص بتبادل الشتائم, والرد علي العنف بعنف أشد منه, ومقايضة راحة البال بدفع الرشاوي والإتاوات والبقشيش؟ أم أكتب عن غلاء الأسعار الذي تحول إلي غول خارج إطار السيطرة, فلا حكومة جادة في محاربته والقضاء عليه, ولا حتي المواطنون قادرون علي المواجهة, فإذا كنا قد قاطعنا اللحوم الحمراء سواء طواعية أو مجبرين, هل نقاطع الكوسة والبمية والملوخية أيضا؟ أم أكتب عن العام الدراسي الجديد الذي كشر عن أنيابه, والكتب مازالت حائرة بين مطابع الحكومة والقطاع الخاص, وجيوب الأهالي تشهر إفلاسها أولا بأول, والعملية التعليمية في حالة موت إكلينيكي منذ سنوات طويلة مضت ولا نريد أن نعترف بذلك, بل نمعن في إخضاعها بين الحين والآخر لعملية تجميلية لشد وجهها الذي أكلته التجاعيد رغم ان مصيرها محتوم؟ ووجدت أن خير وسيلة للاحتفال بالعيد هي ضرب عرض الحائط بنصيحة أمير الشعراء أحمد شوقي, وقررت أن تكون السمة الاحتفالية بالعيد هذا العام هي الإغراق في تمني المطالب, وذلك بعد ما عجزت تماما عن أخذ الدنيا غلابا. والمطلب الاول الذي أتمناه هو أن يخضع المسئولون لعملية إعادة توزيع, فبدلا من تكتلهم في التجمعين الخامس, والسادس من أكتوبر, والمهندسين, اقترح توزيعهم علي أحياء وضواحي القاهرة الكبري. فأغلب الظن أنهم يعتقدون أن شوارع مصر كلها تشبه الشوارع التي تعيشون فيها أو يمرون بها, وأنها وارفة الظلال بفعل الأشجار اللا متناهية, ولا تعاني أي عقد أو كلاكيع مرورية, وفي حالة نظافة دائمة, ولا مجال للمخالفات فيها. فمثلا علي سبيل المثال لا الحصر, أكاد أجزم أن أيا من المسئولين الكبار أو المتوسطين لم يمر ولو مرور الكرام من شوارع مدينة نصر التي أصبح يضرب بها المثل في الشوارع العامرة بالحفر والمطبات, والأرصفة التي لاتخلو من مخالفات علي كل شكل ولون. ولن أخوض في مجال هذا المطلب في تمني أن ينتقل المسئولون للعيش في المناطق الشعبية أو العشوائية, لأن الإغراق في التمني ينقلب الي استهبال. والمطلب الثاني الذي سأمضي العيد في تمنية هو أن يظهر أحد رجال مصر الشرفاء الأقوياء الوطنيين ممن يتبوأون مناصب رفيعة وعظيمة وكبيرة, ويأخذ علي عاتقه مهمة السيطرة علي طاعون الميكروباص المستشري في شوارع مصر. ولن أغرق في التمني كما أسلفت, وأطالب بأن تشمل السيطرة عشوائية القيادة في مصر والتي حولت شوارعنا الي ساحات قتال خارج إطار القانون, ولكن سأكتفي بتمني السيطرة علي هذا الطاعون, بل واقتلاعه من جذوره, حتي وإن اقتضي الأمر القضاء عليهم تماما والبدء في تأسيس منظومة نقل علي مياه بيضاء بدلا من الهمجية الميكروباصية التي لا يسلم منها احد بمن في ذلك بلطجية الميكروباص انفسهم. المطلب الثالث هو النظر بعين الاعتبار الي المشاهد العشوائية البوهيمية التي تجري في كل دقيقة علي الطريق الدائري المؤدي الي التجمع الخامس, وهو الطريق الذي بات يعرف ب طريق المدارس والجامعات لكثرة عدد المدارس الواقعة في التجمع الخامس. فنسبة كبيرة من سكان مصر الجديدة ومدينة نصر والمقطم والمعادي ترسل ابناءها الي مدارس التجمع. أما الأمان علي هذا الطريق فحدث ولا حرج, فرغم أن السرعة القصوي هي90 كيلو مترا في الساعة, ورغم اللافتات التي تؤكد وجود الرادار, إلا أنني أتحدي أن يزيد عدد الملتزمين بهذه السرعات علي عشرة او15 في المائة علي أحسن تقدير. عدد الصبية ممن اشتري لهم بابي سيارات فارهة بالاف الجنيهات يرتعون بها علي الطريق دون أدني رادع كبير جدا. وعدد سيارات الميكروباص والباصات وكل أنواع المركبات التي يقوم قائدوها بحركات بهلوانية تنافس أعتي لاعبي الأكروبات والتي غالبا تنتهي بمشاهد دموية لا حصر لها. فأين دوريات المرور والسيطرة علي الطريق وتطبيق معايير الأمان ومقاييس السلامة, ولن أذكر في هذا الصدد قانون المرور الجديد الذي للأسف لم ير النور رغم مرور أشهر علي صدوره, ولكن مطلبي هو أن يطالع المسئولون صفحات الحوادث, وصفحات الوفيات ليشاهدوا بأنفسهم الكم الهائل من الشباب الذين تسفك دماؤهم علي الطريق, والغالبية العظمي منها بسبب السرعة الجنونية, وليكن هذا المطلب استغاثة, فكل منا له أبناء وأقارب واصدقاء معرضون للقتل يوميا علي الطريق. والمطلب الرابع يتلخص في أن تتوقف جموع الممثلات عن التأكيد في حواراتهن المهمة وأحاديثهن الشيقة علي أنه لا مانع لديهن من أداء أدوار الاغراء شرط أن تكون في السياق الدرامي, وأن القبلة لو كانت تخدم البناء التسلسلي للحبكة الدرامية, فلا مانع منها. والمطلب الخامس وثيق الصلة بالثالث, فياريت الفنانات اللاتي اخترن أن ترتدين الحجاب وأعلن في كل وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة أنهن اعتزلن التمثيل لأنه حرام ورجس من عمل الشيطان أن يلتزمن بقرار الاعتزال ويختفين من علي الشاشات, ولا يعدن إليها لأن محاولاتهن المستمرة للامساك بالعصا من المنتصف سخيفة وبايخة ولا طعم لها. أما المطلب السادس فهو أن نتوقف عن عملية الفصل التام بين مظهرنا المتدين القريب من الله المفرط في الورع والتقوي وواقع تصرفاتنا وأخلاقياتنا التي تؤكد أن كثيرين وكثيرات كتبوا عبارة نكتفي بهذا القدر أمام الشق الديني من حياتهم عقب دخول الحمام بالقدم اليسري وارتداء غطاء الشعر وترديد دعاء ركوب مترو الأنفاق. المطلب السابع يتعلق برؤيتنا للشكل الحضاري للمدينة التي نعيش فيها. فرغم هذا العدد الهائل من السيارات الفارهة والفيلات الأنيقة والقصور المنيعة التي تحفل بها القاهرة, إلا أن سلوكيات البشر ليست بنفس القدر من الأناقة والشياكة والعظمة, وإلا لما تحولت العاصمة إلي مزبلة كبري. ولا أقصد أكوام القمامة التي لا تجمعها الشركات المتعاقد معها للقيام بهذه المهمة, ولا أقصد أكوام القمامة الأخري التي يتخلص منها أصحاب المحلات بطريقة خالية من أدني قواعد النظافة, ولكني أقصد القمامة المتطايرة من نوافذ السيارات الأنيقة, أو علب المياه الغازية التي يتخلص منها شاربوها علي الأرض دون أدني مراعاة لأدني قواعد نظافة أو دين أو حضارة. المطلب الثامن هو أن نستخدم قانون الطواريء أو قانون الارهاب الجديد, ولكن هذه المرة ليتم نزع كل آلات التنبيه من كل السيارات بأنواعها, باستثناء سيارات الاسعاف والمطافئ وياريت في حال عثر علي أحدهم وهو مركب سيارينة شرطة, أو سيارات حراسات أو ماشابه, وهم كثر, أن تتم محاكمته في ميدان عام, وأن تطبق عليه أقصي عقوبة ليكون عبرة لمن لا يعتبر. المطلب التاسع يتلخص في أن تتحول مراكز الشباب فعليا إلي اماكن يمارس فيها الشباب من الجنسين كل أنواع الرياضة المتاحة, بدلا من أن تكون أوكارا للأنشطة الممنوعة أو قاعات للحفلات و الأفراح المزعجة والعارية من أدني قواعد الذوق. المطلب العاشر والأخير هو أن تحاول الحكومة أن تتقبلنا كما نحن, فالعقد المبرم بيننا لن يتيح لها تغييرنا أو تحديثنا أو حتي تبديلنا, فنحن قدرها, وربما هي تكون قدرنا! وبما أنها الحكومة التي من المفترض أن تكون مهمتها العمل علي توفير الوسائل التي تحقق لنا حياة كريمة, من تعليم ورعاية صحية وسكن ومواصلات وغيرها, فانني أتمني أن تتوقف الحكومة عن تذكرتنا بمناسبة ومن غير مناسبة بكم المشاريع المذهلة التي تم إنجازها بفلوسنا, وعدد المدارس الجديدة التي تم افتتاحها بفلوسنا والكباري الجديدة التي انتهي العمل فيها بفلوسنا, وغيرها من الانجازات التي تعتبرها الدول الديمقراطية مهمة أي حكومة وليست منة أو هبة أو صدقة. مطالبي العشرة هي التي سأمضي إجازة العيد في تمنيها وتخيلها, ومع كل الاعتذار لشوقي بك, ولكن ليس في إمكاني حاليا سوي التمني من أجل نيل المطالب. ولصاحب المكالمة الهاتفية المهذبة المنددة ب قسوتي علي مصر, أقول إنني ولا مليون واحد غيري في إمكانهم أن يقسوا علي مصر, فمصر اكبر بكثير من أن يقسو أو يحن عليها أحد. كما أنني لا أزايد علي وطنيتي أو وطنية غيري, ولكن إن كان أي منا يقسو في كتابته أو في عمله الاعلامي, فإنه يقسو علي المسئولين الذين يتهاونون في أداء ادوارهم, ويهيأ لهم أن ما يقومون به من اعمال هي هبة, وهي ليست كذلك, إنه واجبهم الذي يفترض أن يحاسبوا عليه. كل عيد والجميع بألف خير!