قال: عندما أصبحتُ مراسلا لإحدي وسائل الإعلام، شعرتُ في البداية بنشوة، ليس مرجعها إلي ما أتقاضاه من مرتب شهري ممتاز، ولكن لأنه أتيح لي أن أحقق أمنيتي بأن أكون صحافيا مبدعا. غير أن نشوتي تلك لم تكتمل، فقد أصبحتُ في نظر المحيطين بي مسؤولا عن كل ما تُذيعه وسيلة الإعلام التي أعمل لحسابها، فصرتُ مُطالبا بأن أفسّر كل ما تبثه تلك الوسيلة، فانتقلت في نظر الكثيرين من مراسل ضمن جيش المراسلين المنتشرين في كل أنحاء العالم إلي شريك أو مالك لوسيلة الإعلام في نظر كثيرين من البسطاء والعامة وأنصاف المثقفين. ومن هذا المنطلق فإنني كنتُ بين خيارين، الأول أن أوضح لكل من يسألني صفتي كمراسل ضمن مراسلي المحطة، وأنني مجرد موظف يُطارد الأخبار، وهذا التفسير بالطبع سيُقلل من الهالة والتاج الذي أحمله، ويجعلني في نظر هؤلاء خادما وفردا من أفراد الكتيبة الإعلامية الكبيرة للمحطة، أما الثاني فهو أنني مُطالبٌ بأن أتقمّص دور مالك المحطة والقناة، وأن أفلسف توجهاتها وأشرح المهمات الإعلامية الواقعة علي كاهلها، وأغوص في شرح التوازن الإعلامي باعتباره جوهر الرسالة الإعلامية، وأن أية محطة لا تلتزم به، فرسالتها الإعلامية منقوصة. وللحقيقة فقد كنتُ أميلُ إلي الثاني، فأشرح لكثيرين التوازن والفلسفة الإعلامية، وأغضُّ الطرف عن بيان حقيقتي كمراسل ضمن أعداد المراسلين. أما ورطتي الثانية فهي الأبشع، لأن منطلقات الوسيلة التي أعمل فيها لا تتلاءم مع ما يطلبه الجمهور الكبير في وطني، إذ أن الوسيلة الإعلامية التي أعمل لحسابها لا ترغب في أن أزعجها صباح مساء بأخبار القصف والقتل وهدم اليبوت، وتغلغل الدبابات في جسد غزة كل ليلة، وهي تطلب مني أن أرسل لها الأخبار وهي التي تحدد أولوياتها، وهذه هي أبجدية إعلامية معروفة. وعندما لا تشير وسيلتي الإعلامية إلي بعض أخبار الوطن تطاردني العيون صباح مساء طالبة مني تفسيرا لعدم ظهوري علي الشاشة، وعدم متابعتي للأحداث الجسيمة التي حدثتْ. وأخفّ سؤال وتقريع أستقبله بالهاتف: أين أنت من الأحداث التي جرتْ في منطقتنا؟! أما الأبشع فهو أن وسيلة الإعلام التي أعمل بها طلبت مني ألا أستخدم كلمة الشهيد لمن يموتون! حاولتُ أن أجد مرادفا يُرضي أبناء وطني ومحطتي فقلت: قتل الجنود مقاومين، وحاولت أن أُغيّرَ كلمة مات أو قُتل بتعبير (قضي نحبه)! غير أنني أصبحتُ مطاردا من كل مَن حولي، فمن قائل بأنني جاسوسٌ أعمل ضمن الكتيبة الإعلامية المدسوسة أتقاضي مرتبا عاليا نظير خدماتي الإعلامية، وإلا فكيف أرضي بأن أصف الشهداء بالقتلي؟! وشرع هاتفي ينقل إلي كل أنماط التهديدات، وأخذ كثيرون يستوقفونني مستغربين هذا التواطؤ بيني وبين جنود الاحتلال! حتي انني تلقيتُ مكالمة من مسؤول حزبي كبير، يلومني علي استخدام تعبير قضي وقُتل بدلا من استشهد ويعتبُ عليّ أولا لأنني رضختُ لإملاءات الوسيلة الإعلامية، وخُنتُ دماء الشهداء، ولم أُفلح في تفسير موقفي، ولم أكن أعلم بأن هذا المسؤول الحزبي الكبير كان يهدف لشيء آخر، وهو أن أجعله ضيفا من ضيوف المحطة، ولما أعلمته بأنني سأحاول أن أستضيفه بعد موافقة المحطة، فرح وتنازل عن اتهامه لي، وأعطاني رقما هاتفيا جديدا لا يعرفه سوي المقربين! ونعمتُ بفترة من الهدوء النسبي، غير أن وسيلة الإعلام التي أعمل لحسابها، طلبتْ مني ألا أستضيف الشخصية السابقة، لأن آراءه تُناقضُ توجهاتها. فأوقفت اتصالاتي به، وشرع هاتفي يدقُّ من جديد، وبدأ أنصارُ حزبه يعرقلون عملي عندما أودُّ تغطية حدث من الأحداث! أما قصتي مع كبار السياسيين في الأحزاب الأخري، فهي محزنةٌ ومحرجة، فلم أكن أتوقعُ من مسؤول حزبي كبير، أن يقول لي بأن رقم هاتفي عنده مقدسٌ، لدرجة أنه يقطع اجتماعاته الحزبية ليردّ علي اتصالاتي، ويضع هاتفه إلي جوار المخدة حتي يرد علي هاتفي. ولم أكن أتوقعُ أن عدد هؤلاء ليس قليلا في وطني، وحجتهم دائما هي مخاطبة الرأي العام، إسهاما في الجهد الوطني الإعلامي، ولو أنني كنتُ أعرف بأن معظمهم كان يسعي لجعل صورته في مرايا كل وسائل الإعلام كجزء من حب الذات، فهو يستعد ويلبس أفخر ربطات العنق ويحضر في كل الأوقات، حتي وهو يجهل الموضوع المطلوب أن يتحدث فيه، فكثيرون من هؤلاء السياسيين يسألونني عن الموضوع وهم يستعدون للتصوير، وكنتُ أفاجأ بأن بعضهم ليس علي دراية بموضوع التعليق المطلوب منهم، لأنهم لم يسمعوا آخر الآخبار، فكنتُ أشرح لهم في البداية موضوع اللقاء، وأقترح عليهم جزءا من التعليق! أما فقهاء السياسة ممن يتقاضون مكافآت من عدة وسائل إعلامية، فتكون منزلة هؤلاء وفق فهمهم للدور الواجب أداؤه في كل وسيلة من وسائل الإعلام. كما أن منزلتهم تحددها قدرتهم علي الحديث والردود المنطقية، وحجم محفوظاتهم من الكلاشيهات السياسية التي يُجيدون ترديدها، وتحددها أيضا قدرتهم علي المراوغة وإعطاء إجابات تحتمل أكثر من ثلاثة تفسيرات علي الأقل. وهؤلاء يعتبون عليّ لأنني لا أستضيف إلا وجهين مكررين معروفين، وهم لا يعرفون بأن هذين الوجهين مقبولان في وسيلة الإعلام التي أعمل لحسابها، ولا أعرف السبب وراء ذلك، لكنني رجحتُ بأن الشخصيتين السابقتين مطلعتان علي الرسالة الإعلامية للمحطة، كما أنهما اعتادا أن يُجيبا إجابات لا تقود إلي موقف، وهي أيضا غيرُ مفهومة لا للجمهور، ولا للمختصين الإعلاميين المنافسين لهما. أعترف في النهاية بأن شهرتي لم تجلب لنفسي الراحة والسعادة، حتي وإن أصبحتُ صديقا لجميع السياسيين والمحللين والطامعين في أن يكونوا نجوما، ولستُ سعيدا حتي عندما كنتُ أُشير من بعيد بإصبعي أثناء احتفال جماهيري، فينسلُّ لإشارة إصبعي مسؤول كبير ووجه سياسيٌ مرموق، يترك الاحتفال والمحتفلين علي الرغم من أنه هو نجم الاحتفال، فأوقفه أينما أشاء، وأسأله ما أشاء، وأطلب منه أن يختصر في الحديث، ولم أشعر بالنشوة وهو يبتسم في وجهي، ولم أنتشِ بنظرات المسؤولين الكبار الآخرين الذين كنتُ أحسُّ بأن نظراتهم تقول لي: نحن جاهزون لإشارة صغيرة بطرف عينك لنقف أينما تودّ وترغب! فقد كنتُ متأكدا بأنّ تلك النشوة زائفة، لأنها يمكن أن تنقلب إلي كوابيس في المساء، وتهديدات هاتفية، وحتي اعتداءات جسدية لأنني نسيتُ شيئا، أو أخطأت خطأ غير مقصود، أو أنني نفذتُ الرسالة الإعلامية المطلوبة مني، أو أن المقابلات التي أجريتها أعيد مونتاجها في المحطة بعد ساعات، فحذفتْ جملٌ كثيرة من جمل المتحدثين، واختصرت الدقائق الخمس للمسؤول الكبير إلي دقيقتين فقط، بدون أن أعرف ما الذي جري!