هناك اتفاق عام بأن علاقة مصر بالحداثة بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر, وتحديدا مع خروج جنود الحملة الفرنسية من مصر. كما أن هناك اتفاقا علي أن القرن التاسع عشر كان قرن الهجوم الاستعماري الأوروبي ليس علي مصر وحدها ولا العالم العربي والإسلامي وحدها وإنما علي العالم الثالث كله. فليس من قبيل المصادفة أن عام1840 الذي قضت فيه الإمبراطورية البريطانية علي مشروع التحديث المصري الذي بدأه محمد علي, هو نفس العام الذي شنت فيه حرب الأفيون مع الصين, وهو نفس العام الذي أشعلت فيه مع فرنسا الحرب الأهلية في أورواجوي بأمريكا اللاتينية. ومنذ أن ظهرت الجيوش الأوروبية بأنظمتها الحربية وقدراتها التكنولوجية في الشرق العربي تراكمت الأسئلة' الوجودية' علي النخب المتعلمة والمثقفة. لماذا هزمنا في ديارنا ؟ هل هم متقدمون علينا ؟ في أي المجالات ؟ أم أننا نحن المتخلفون ؟ في ماذا بالتحديد؟ هل يجوز عقد المقارنات بيننا وبينهم واستخدامهم كمرآة نكتشف فيها أخطاءنا؟ هل يجوز الاقتداء بهم فيما يخص تنظيم حياتنا ودنيانا ؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها حاضرة صراحة أو ضمنا, بل انها فرضت نفسها علي الجميع, المفكر وعالم الدين والسياسي والاقتصادي ورجل الشارع علي السواء. و منذ البداية وحتي الآن تتراكم الإجابات العميقة أحيانا والمبتسرة أحيانا أخري, تلك الإجابات التي تحولت علي مر السنوات إلي أسئلة أكثر صعوبة يزيد من صعوبتها أن الفجوة تزداد عمقا بشكل مطرد لتجعل الواقع أكثر تخلفا بشكل مخيف. وليس من شك في أن أول من تعامل مع صدمة الغرب كان شباب وكهول القرن الثامن عشر من أمثال المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي والشيخ الألمعي حسن العطار الذي أصبح شيخا للازهر في زمن محمد علي, والأديب اسماعيل الخشاب, هؤلاء الثلاثة الذين دفعهم الفضول إلي التردد علي المجمع العلمي الذي أنشأه الفرنسيون في مصر للتعرف علي ما لم يروه من قبل من علوم وأدوات علمية وتجارب معملية علي نحو ما يقرره الشيخ الجبرتي في كتابه عجائب الآثار. غير أن المندهشين الأوائل لم يتركوا لنا إجابات شافية عن الأسئلة التي درات بخلدهم لكنهم ساهموا بشكل كبير في حث الجيل التالي علي السعي لفهم القضية سعيا لنهضة تمنوها ولم يبلغوها, ويمكن أن تري هذا التوجه في السطور القليلة التي كتبها الشيخ حسن العطار لتلميذه النابه رفاعة الطهطاوي كمقدمة لكتابه حيث يؤكد الشيخ أن السعي إلي الآخر بالسفر والإقامة أداة هامة من أدوات المعرفة إن شئت أن تعرف. وفي القرن التاسع عشر ساقت الأقدار ثلاثة من الكبار ليجيبوا عن الأسئلة الشائكة. وكان الأول شيخا مصريا أزهريا معمما, رحل إلي الغرب إماما لأولي البعثات التعليمية, فقد التحق بالبعثة ليحث المبعوثين علي الصلاة والالتزام, فعاد منها المفكر الاستراتيجي الأول للنهضة, إنه الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي سجل شهادته في مؤلفه الشهير' تخليص الإبريز في تلخيص باريز', كما تراكمت أراؤه في ماهية النهضة والوطن والتقدم والتعليم والمعرفة في الكثير من مؤلفاته الكثيرة كما دفع الكثيرين من تلاميذه في مدرسة الألسن إلي ترجمة العديد من المؤلفات العلمية الأوروبية. وكان الثاني مارونيا لبنانيا( تحول للإسلام لاحقا), رحل إلي الغرب باحثا عن العمل في مجال الترجمة من اللغات الأجنبية إلي العربية, إنه الأديب واللغوي الكبير أحمد فارس الشادياق الذي تنقل أثناء أقامته الطويلة في أوروبا بين مالطة وفرنسا وانجلترا. وقد سجل تجربته في كتاب بعنوان' الوساطة في معرفة مالطة وكشف المخبا في فنون أوروبا' وتناثرت آراؤه في العديد من المقالات في مؤلفه الشهير' الساق علي الساق في ما هو الفارياق' و في جريدته الجوائب التي كان يصدرها من اسطنبول واحتواها كتاب' كنز الرغائب في منتخبات الجوائب'. أما الثالث فقد كان تونسيا من أصل شركسي سافر إلي فرنسا في مهمة خاصة بحاكم تونس في ذلك الوقت' أحمد الباي' لاسترجاع بعض أموال هرب بها ملتزم ضرائبه, وقد طالت إقامته هناك حتي بلغت أربع سنوات. إنه خير الدين التونسي الذي سجل ملاحظاته وآراءه في عن التقدم الأوروبي من منظوره في كتاب' أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك' وبالرغم من أنه لم يكن أحد الثلاثة من طلاب العلم بالمعني التقليدي إلا أنهم قدموا لمجتمعهم وعصرهم إجابات واضحة, وصادمة لكنها لم تنطو في الوقت ذاته علي أي شكل من أشكال عقد النقص أو علي أي درجة من درجات القطيعة المعرفية مع الذات الحضارية. كانت إجابتهم, نعم, نحن متخلفون ونحتاج للتعلم من الآخرين. وللحديث بقية.