د. مجدي العفيفي «عصا» أنيس منصور أرحم من «عصا» العقاد والحكيم * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». كان القلم في يد أنيس منصور مثل عصا موسى.. يهش به على غنمه من الكلمات، يسوقها إلى المعاني، أو يسوق إليها المعاني، أحيانًا، تمشي وراءه وينفخ في عصاه كأنها أرغون، ويغني ولا يلتفتُ إلى الأغنام وراءه وحوله وأمامه، هو يقول: - أحيانًا أرى عصاي تلتهم الكلمات وتلتهم الأفكار، ولا أعرف ما جدوى أن تكون لي عصا، وأحيانا أرى عصاي مثل عصا المايسترو أقود بها ما لدي من أفكار، وأهش بها على ما لدى من كلمات، وأقوم بالتنسيق بينها جميعًا ويسعدني ذلك، وأحيانًا أرى عصاي مثل عصا توفيق الحكيم.. - سألته: ولماذا العصا يا أستاذ؟ - قال: حتى الآن لا فائدة منها، ولكن عندي أمل أن يجيء وقت أنهال بها على دماغي ندمًا على أنني أضعتُ عمري في الكلام الفارغ، فلا أضفت جديدًا، ولا أصلحت وضعًا، ولا كان لي حواريون. قلت: بل أضفتَ يا أستاذ وأقنعت وأسعدت، وفتحت رءوسًا مغلقة، وأضأت طرقًا مظلمة في القصة والرواية والمسرحية، وكانت لك نظرية فلسفية، وإذا لم يكن لها أثر هذه الأيام فسوف يكون غدًا أو بعد غد، فضحك توفيق الحكيم وقال: - الآن عرفت لهذه العصا فائدة مؤكدة، وهي أن أنزل بها على رأسك، فأنت شديد التفاؤل، بينما أنت في طبيعتك شديد التشاؤم. ولما سئل الأستاذ العقاد - وقد لاحظنا أنه أصبح ثقيل الخطو - ولماذا لا تستخدم عصا يا أستاذ؟ - أجاب: إنني أحتاج إلى كثير من هذه العصا، واحدة أسند بها رأسي، وواحدة أسند بها قلبي، وواحدة لكي أقوّم هذا المجتمع الأعوج، وعصا أضرب بها مؤرخينا الكذابين، فإن كان عندك هذا النوع من العصا فهاتِ منها مئة وألفًا.. لكن أنيس منصور رضي بأن يستعير عصا موسى... فهي أسهل! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». لم يكن أنيس منصور من الذين يصلون الليل بالنهار في الصلاة والدعاء، ولا كان مثل والده ينظم الشعر في مدح الرسول، ولا كان مؤهلًا لذلك، ولا كان يشارك في حلقات الذكر، ولا يصف الآيات القرآنية علاجًا لأوجاع الناس، كما كان يفعل والده، ولا نذر نفسه لله، وإنما كان مثل مئات ملايين الناس يفكر ويتأمل ثم يعلن عجزه عن الفهم، ويعلن يأسه من أن يحقق شيئًا من النجاح في فهم قضايا الكون: الله، والحياة بعد الموت، والعبث والنشور، والوحي والرسول عليه الصلاة والسلام والقرآن الكريم. كلها أضواء باهرة لا يستطيع أن يفتح عينيه فيها، ولا يستطيع عقله الصغير أن يحيط بها فعقله في حجم كفه، كان يقول: لا أستطيع أن أضع الكون في كفي، ولا أن أضع الشموس والأقمار والنجوم في عيني، ولا أن أحشر كل المعاني والكلمات في فمي، فأنا ضئيل جدًّا، والكون عظيم جدًّا، وعمري قصير جدًّا، وسنوات عقلي قليلة جدًّا، وأنا ذاهب وكل شيء باقٍ، تراب جزمتي أطول عمرًا مني، والكون لا أول له ولا آخر، لا بد أن يكون له أول، أين؟ كيف؟ متى؟ ماذا ؟ لماذا؟ والله العظيم، أروع، أقوى، أبلغ، أحكم، أعدل، وأنا لا شيء، فكيف يعرف اللاشيء أي شيء، كل شيء؟ والذي رأيته في نومي معنى، رسالة، رسالة تلقيتها، إنذار، إخطار، استدراك، رحمة، بركة. ولكني.. سددت أذني وعيني ووضعت عقلي تحت قدمي وسحقته، ولم أرفع قدمي إلا بعد أن تحول قلبي إلى تراب، فنفضته واستراح عقلي إلى ذلك، ثم صنعت تاجًا من الذهب على شكل عقل ووضعته فوق رأسي، وقلت: عقلي جالس على عرشي في مملكتي، فما هي مملكتي؟ لا مملكة أنا مملكتي؟ فمن أنا؟ إن شيئًا من مملكتي لا يطاوعني، فالقلب يدق دون إذن مني، والمعدة تطحن بغير إرادتي، والهواء داخل خارج من أنفي بغير إذني، وأنام بغير إذني، فما هي مملكتي؟ وعقلي يتذكر وينسى بدون إذني، فما هي مملكتي؟ لا مملكة لا عرش ولا تاج. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». تجريد كامل من كل شيء.. وأي شيء.. - إذن ما الذي تراه في الدنيا حولك يا أستاذ؟ «إنها القسوة في كل عين، في كل كلمة، لمسة في كل وعد، وفي كل وعيد.. لقد أصبحت الدنيا غابة من الأسمنت المسلح، وأصبحت أنياب الناس مسدسات، وكلماتها مفرقعات، وأفكارها عصابات، والحب حرب، والحرب حب، والدنيا آخرة». وما الذي يريده الناس من الناس يا أستاذ؟ - «لا شيء إلا أن يموتوا». ولماذا لا يريد الناس أن يعيشوا، وأن يتركوا غيرهم يعيش يا أستاذ؟ «لأن هناك ضيقًا. فكل إنسان يضيق بغيره. ويرى الدنيا لا تتسع لهما معًا.. ثم يضيق بنفسه. ولذلك فالناس ينتحرون، أو هم يقتلون الآخرين ليموتوا هم أيضًا». * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». و.... ما بين الاستقالة من الحياة.. بالاستقالة من الكتابة، سواء باليأس واللاجدوى أحيانا أم الانتحار أحيانا أخرى.. نتواصل في فضاء أنيس منصور.. عندما كان يصرخ ويبكي ويقول بصوت مذبوح: (والله يا دكتور اعفني من حياتي كلها.. اعفني من مشكلاتي وعذابي.. إنني أحمل الكثير على كتفي.. أرحني يا دكتور.. هذه فرصة انتظرتها طويلًا.. اجعلني أنام هكذا يوًما أو شهرًا أو سنة.. أو اتركني أنام إلى الأبد..). في فضاء هذه اللحظات.. نتحاور.. نتجاور.. نتجادل.. ونتفاعل.. في المسافة المتحركة ما بين صومعته في بيته، ومكتبه ب (الأهرام)... إن كان في العمر بقية. وسلام قولا من رب رحيم.