د. مجدي العفيفي ماتوا كلهم.. فلماذا تركني الله؟ * * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». أنهيت المشهد السابق في (شارع استقالات الكتاب الكبار من الكتابة) بقولي: لم يعتزم أنيس منصور تقديم استقالته من الكتابة، ولم يقدمها لكنه أقدم على الانتحار... كيف ولماذا؟ كثيرا ما كنت أجلس مع أنيس منصور في أخريات أيامه في مكتبه بالطابق الخامس والسادس معا بالأهرام، وكثيرا ما كان يتساءل في دهشة، والسؤال نصف الجواب: لماذا تركني الله – تعالى - إلى هذه السن؟ ولماذا وحدي؟ لماذا ناداهم كلهم إلا.. أنا؟. وكان يقصد زملاءه من عمالقة الفكر والإبداع.. فهو آخر رموز جيل أعطى بسخاء، في فروع المعرفة كافة، بلا حدود، ومن المفارقة أنهم كلهم رحلوا في سنوات وأوقات متقاربة: توفيق الحكيم 26 يوليو 1989، حسين فوزي 11 يوليو 1988، إحسان عبد القدوس 12 يناير 1990، يوسف إدريس أغسطس 1991، زكي نجيب محمود 8 سبتمبر 1992، يحيي حقي 9 ديسمبر 1992، حسين مؤنس 17 مارس 1996، سهير القلماوي 4 مايو 1997، عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» 1 ديسمبر 1998، ثروت أباظة 17 مارس 2002، ثم نجيب محفوظ 2006، ومصطفي محمود 31 أكتوبر 2009، ومن قبلهم يوسف السباعي 18 فبراير 1978، وصلاح عبد الصبور 1981، وأحمد رامي 1981، ورشاد رشدي وغيرهم من أعلام المفكرين والنقاد والأكاديميين في عالم الأدب والفكر والثقافة، وهم وإن رحلوا «أشخاصًا» فقد بقوا «شخصيات» ومصابيح مضيئة في فضاء الثقافة، إبداعًا وإنتاجًا، وصياغة وصناعة، وها هو أحدثهم وآخرهم أنيس منصور 21 أكتوبر 2011. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». شغلت «ثنائية الموت والحياة» كثيرًا من دوائر تفكيره، كان يخاطب الموت قائلًا: «أيها الموت لحظة من فضلك» و«لعل الموت ينسانا»؟ أوديب انتحر بعد أن اكتشف «الحقيقة»، قتل أباه وتزوج أمه، والفيلسوف الألماني شوبنهور ألقى بنفسه من الهاوية، وكان يضع صور وحش أوديب على خاتمه، وكذلك الكاتب الروسي أرنست هيمنجواي، فلماذا أردت أن تستعجل الموت في عنفوانك بالذات؟ الانتحار أو التخلص من الحياة، قد يأتي في ساعة يأس، وقد يتم في ساعة تصوف، أو في الحالتين معًا، بمعنى أنك في حالة التصوف لا أمل ولا يأس، أنت تبت، لا أنت حي ولا أنت ميت، خلاص... وهي الحالة التي يسميها الهنود «النيرفانا» أي الشعور بالعدم، أو الاكتمال بالعدم، وهي عند الصوفية «حالة المحاق» أو « الغراب الأسود» أو هي بمعنى «الثقوب السوداء» في الكون. إذا كان أنيس مصور لم يقدم استقالته من الكتابة، إلا أنه فعل ما لم يفعله زملاؤه المبدعون، فقد أقدم على الانتحار أكثر من مرة، الأولى.. كانت حالة يأس مبكرة حدثت وهو شاب صغير حين حقق الترتيب الأول على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة، ولم يلتفت له أحد، ولا حتى والده أو والدته أو إخوته أو أقرباؤه أو أصدقاؤه، لا مبالاة شعر بها، لا معنى للحياة، ولحظة أن كاد يلقي بنفسه في النيل فاجأته ممرضة أمه: «أخبار ماما إيه؟» فتراجع! والمرة الثانية كانت في مرحلة الثلاثينيات من عمره، حسبها بالطول والعرض «لا أنا عارف حاجة، ولا أكتب عن ماذا، ولا فاهم أي حاجة حولي...، وكنت في مدينة هافانا بكوبا عام 1963 فكرت في الخلاص من متاعبي بالموت، وقررت أن ألقي بنفسي من «فندق كوبا الحرة»، وسألت عما سوف يقوله الناس، فتوقفت فما دمت قد سألت فأنا إذن لا أزال أهتم بالناس وما يقولونه، إذن ليست هذه النية صادقة وليس المعنى واضحًا في رأسي». * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». ويتذكر أيضا: «عندما كنت أدرس الفلسفة في الجامعة كنت أغبط تلاميذي وأحسدهم أنهم يصدقون ما أقول، أي يصدقون ما لا أعرف أنا كيف أصدقه، ولم أسترح إليه فهم أحسن حالًا، إنني مثل شجرة تلسعها الشمس، وفي ظل هذه الشجرة ينام ويلعب أطفال صغار. وكتبت وصيتي.. فقد قررت أن أنتحر مرة أخرى، واستأذنت زوجتي في شيء واحد: أن تسمح لي أن أموت تحت كتبي وأن تكرمني بإحراقها معي، فهذه الكتب لم تنفعني، وعندما أحترق أنا وكتبي أكون أنا الحريق والمحترق، تكون كتبي هي الوقود، ويكون شحمي هو الزيت، وأصبح كما قال الشاعر كامل الشناوي: حطمتني مثلما حطمتها ... فأنا منها وهي مني شظايا! كانت عملية شروع في الانتحار، ومرحلة من مراحل اليأس والبحث عن الحقيقة، لكن زوجتي منعتني». قلت: شكرًا لها.. فقد أنقذتك وكتبك لأجيال عدة ولجماهير قرائك، ولا تزال متوهجًا بالعطاء.. مع أنك تهاجم المرأة كثيرًا؟ فقال ردا على مناوشتي له: المرأة توصلك إلى حالة راقية من التصوف، قل لي ماذا تريد من المرأة؟ الحب، التوحد، الدفء، الالتحام، الالتصاق، تذوب أو تذيب، الإشباع بالمعنى الإنساني العظيم؟ أليس هذا هو التصوف؟! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». كان القلم في يد أنيس منصور مثل عصا موسى.. يهش به على غنمه من الكلمات، يسوقها إلى المعاني، أو يسوق إليها المعاني، وبه كتب أكثر من 200 كتاب، كيف لهذا المبدع الكبير أن يعتزم الانتحار؟ ومع من؟ مع إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي.. وفي بيروت بالذات؟! أي أنه انتحار جماعي..!!!! نلتقي في المشهد القادم... إن كان في العمر بقية.