د. خالد قنديل تمثل "الكلمة" في مفهومها البسيط وسيلة من وسائل الاتصال بالآخر، لكن هذه الوسيلة على بساطتها تنتقل بنا عبر بساط الأمانة إلى أجواء إما آمنة وإما خطرة، ذلك أن هذا الاتصال يكون له تأثير في كل منا، فكم من كلمةٍ عمًرت أوطانا، وكم من كلمة أفسدت أمما، فقول الحق كلمة، كما أن الفتنة كلمة، والثناء الجميل كلمة، والسخرية التي تؤذي النفوس كلمة، وهكذا. فإذا كانت الكلمة مؤداها كل هذه المعاني، فلا جدال إذن حول تأثيرها، ولا يليق بالإنسان أن يستخف بها، فإنها ترفع صاحبها إلى سابعِ سماء أو تخسف به باطن الأرض، ويقول تعالى في محكم آياته: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ"، فلنرَ معًا ونعي هذا التقابل بينَ الشجرة الطيبة، ذات الجذور الراسخة في الأرض، والأغصان العالية التي تكاد تصل إلى عنان السماء، ولا تنال منها الرياح العاتية، ولا تعصف بها العواصف، وتنبت من البذور الصالحة، وتعيش في الأرض الصالحة، وتجود بالخير في كل حين، وتعلو بظلال وارفة، وثمار طيبة يستطيبها الناس ولا يشبعون منها، وكذا الكلمة الطيبة دائما ما تعلو بقائلها ومن قيلت له، تملأ النفس بالصدق والإيمان، ولا تستأذن حال نفاذها إلى القلب. وإذا تفكرنا وتدبرنا أحوالنا في رمضان، سنعي أن الصوم لا يكون عن الطعام والشراب وحسب، وإنما صومٌ عن كل ما يؤذي أو يُلحق ضررًا بنا أو بغيرنا، ومن هنا فالصوم عن إطلاق أي كلمةٍ غير طيبة بمثابة فرضٍ على المؤمن الذي يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال "من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت"، وهنا في قوله صلى الله عليه وسلم الذي "ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحى"، ربط بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وبين قول الخير، وهذا ليس من فراغ وإنما لتأثير هذا القول مثل سيف مَضاء في النفوس، لتكون الكلمة بمثابة الطاقة التي تولد شحناتٍ إيجابية وغيرها سلبية ويكون لها وقع هذه الطاقة في نفس من يستمع لها، فتخيل نفسك خارجًا من بيتك صباحًا وصادفتك عجوزًا ألقيت عليها سلامًا طيبًا فتوجهت بمحياها الكريم تجاه السماء وألقت كلماتٍ ملؤها دعاءً لك بالتوفيق والسداد والستر والصحة وراحة البال، كلها كلمات سمعتها أذناك، لكنها تتجاوز مجرد الصوت إلى هذه الطاقة التي تبدل يومك مئة وثمانين درجة بحيث لا يستطيع آخر أن يعكر صفو هذا اليوم، وقد تسلح بكلماتٍ طيبات سندت روح صاحبه، وعلى النقيض إذا سمع أحدُنا خلال يومه كلامًا متشائما أو كارها للحياة، يكون لذلك تأثيره المؤسف علينا والمثبط لهممنا حتى لو كانت هناك حماسة لإنجاز أعمال مهمة. وإذا بحثنا عن ساحات الكلمة التي تتصل بجمهور غفير من الناس، سنجدها في النص المكتوب عبر الصحف وفي المسموع عبر الإعلام، وعبر المنابر لدى الخطباء والدعاة، وفي عنق كل واحد من هؤلاء أمانة كبيرة إما أن يؤديها كما يقتضي الإيمان بالله الحق فيؤجر بالخير كله على انتشارها طيبة إلى يوم الحساب، وإما لا قدر الله أن يُخل بأمانته أو ينتقص منها فيحاسب بقدر تأثيرها في كل من انتقلت إليه، لذا لا بدَّ أن تكونَ العبارة التي تخرج من ألسنة الدعاة لينة، هيئنة، وشائقة مُحبَّبةً إلى النفس، وأن يبتعدَ عن القولِ الجافِّ، والكلمة الغليظة، لأن الدعاة يتعاملون مع القلوب والقلوبُ مركز للإحساس، تبهجها كلمة، وتسوؤها كلمة أخرى، لهذا يقول الله عز وجل وهو يأمر موسى وهارون بالذَّهاب إلى فرعون لإبلاغ الدعوة، والله يعلمُ أن الكلمةَ اللينة أو القاسية لا تُفيد فرعون، فهو كافرٌ؛ لكنه يُبيِّن منهج الدعوة، فيقول: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى".. إذن الكلمة هي أداة للجوارح الإنسانية، فهي نبض القلب، ولسان حال المشاعر، وحكم القضاء، ومكنون الضمير، ورسول المعرفة، وأداة العلم، ودليل الصدق، وسفير الحضارة، وثمرة اللسان، وخلاصة البيان... فحافظوا على قلوبكم وتحروا قول الكلمة الطيبة، يتقبل الله منا جميعا أطيب الكلم ويهدينا إليه.