د. مجدي العفيفي * الاستقالة المستحيلة * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». عرضت في المشاهد الثلاثة الأخيرة اعتزام الكاتب المبدع يوسف ادريس، اتخاذ قرار اللا كتابة واللا قراءة، وهو الذي أثرى المكتبة السعودية الإبداعية بروائعة في فن القصة القصيرة 12 مجموعة، ورواياته، ومسرحياته.... وبعد ثلاثين عامًا إذا به يعلن استقالته عبر نصه الرائع والمروع (يموت الزمار ....) في شكل كتلة سردية من الجدليات الذاتية والموضوعية، بينه وبين الكتابة: جدوى ومتعة.. رؤية ورؤيا.. حلمًا وقلمًا.. ألمًا وأملًا.. واقعًا ووجعًا.. فاجأ الرأي العام، بمسألة لم تخطر على بال المجتمع والناس وجماهير القراء في كل مكان.. بتاريخ الثامن عشر من شهر أبريل عام 1981 وكانت المفاجأة مدوية في مقاله في صفحة 17 «من مفكرة فلان» بالأهرام، التي كان يتألق فيها عظماء الفكر والإبداع يوميًا، وكانت مقالاتهم بمثابة الأوتاد التي تشد خيمة المجتمع. وقلت في نهاية المشهد الاخير أن ثمة يقينًا غير مراوغ كان يدثرني بأن هذه الاستقالة مرفوضة، ليس فقط يسبب غواية «الأهرام» بل أيضًا بسبب «النداهة». نداهة الكتابة... ! ولنا في موقف مماثل من ثلاثة من العمالقة أقدموا على الاستقالة من الكتابة، هم شيخ الأدباء توفيق الحكيم، وفيلسوفنا زكي نجيب محمود، والمبدع الروائي يحيى حقي، وأنا على ذلكم من الشاهدين في منتصف عام 1978. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». وكما حدقت في وجه يوسف إدريس.. شجنا وحزنا. وأنا أصغي إليه وهو يقول لي بعد أن فرغ من مراجعة بروفة المقال، بهدوء شديد، وهو الذي بينه وبين الهدوء مسافات تكاد تكون ضوئية: «قررت اعتزال الكتابة، وهذا قراري يدور حوله المقال في جزأين غدًا وبعد غدٍ»!!. رفعت حاجب الدهشة، ولم أخفضه: هل يستقيل الكاتب؟! وهل يملك هذا القرار؟! وهل الكتابة أصلا تصدر بقرار وتتوقف بقرار؟! هل يتحدد الإنتاج الفكري بعمر معين؟! هل من حق الكاتب أن يستقيل من عالم الكتابة؟! وهل يجوز للمبدع أن يحيل نفسه إلى المعاش؟! هي نفس علامات الاستفهام والاستنكار التي أطلقتها وحدقت بها في وجوه الفرسان الثلاثة: إذ قال المبدع الكبير يحيى حقي إنه «نضب فنيًا نظرًا لظروفه الصحية.. ولم يعد لديه ما يضيفه»، وهو الذي وضع على رفوف المكتبة القصصية 16 عملًا سرديًا منذ «قنديل أم هاشم» سنة 1945 حتى «أنشودة البساطة» سنة 1973. وأعلن توفيق الحكيم توقفه عن الإبداع وبرر ذلك بأنه قد ترك الخلف الصالح، وشبه نفسه بشجرة الموز التي تطرح حتى تحاط بأشجار وليدة من حولها، وعندما تنضج هذه الأشجار تتوقف الشجرة الكبيرة عن الطرح.. رغم أن الحكيم هو الذي ازدانت المكتبة العربية والعالمية عبر خمسين عامًا بروائعه التي تجاوزت ال 55 كتابًا ابتداءً من أهل الكهف عام 933 حتى «عودة الوعي» 1975. ثم فاجأنا مفكرنا العظيم د. زكي نجيب محمود بأنه ودع القلم، وبرر ذلك بقوله: «كنت عند المقالة الأولى سنة 1928 ذا عينين وأذنين، وبات ما يربطني بالعالم من حولي خيوط متقطعة من الضوء، وأسلاك متهتكة من الصوت، وكان تبريره الثاني أن حياتنا الثقافية قد انهارت، ويرجع ذلك إلى أن الشعار الذي يدعو بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر، قد ساد وطغى، وليس ذلك لأن قدراتنا قد أصابها شلل، ولكنها قدرة قد أفسدتها علينا ضروب من الخيانة العقلية». مع أن أستاذنا زكي نجيب محمود أثرى المكتبة وأنزل الفلسفة من أبراجها العاجية إلى الشارع البسيط نسبيًا، بمؤلفاته خلال نصف القرن، وقد بلغت 35 كتابًا ابتداء بكتابه «نحو فلسفة عربية» سنة 1947 وانتهاء بكتابه «ثقافتنا في مواجهة العصر» سنة 1976 بالإضافة إلى 2000 مقال. وقد طرحت هذه الأقوال للحوار والجدل والمناقشة، عبر تحقيق استقصائي في (الأخبار) بتاريخ 21 /6 /1978 وشهد مداخلات وسجل مرئيات لثلة من المفكرين والنقاد وأساتذة علم النفس والتاريخ. كتابنا العمالقة.. هل من حقهم أن يحيلوا أنفسهم إلى المعاش؟! وما رأي العلم في اعترافاتهم وأقوالهم ؟! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». وانطلاقًا من هذا المكان ... نفتح ملف اعتزال الكتابة صفحاته المثيرة للشجن والحزن والتساؤلات التي تتعثر في البحث عن إجابات .. قل هو ملف: حائر.. ثائر.. انهزامي.. استسلامي.. يخل بالتوازن.. يعصف بالنظام الثابت للأشياء.. يكشف عن التمرد الخلاق.. يشي بالاحتجاج الإيجابي والسلبي أيضًا... مبدعون كثر.. مارسوا عملية الاستقالة من الكتابة... لكن غواية الكتابة استردتهم واستعادتهم ولو بعد حين... وهذه الغواية أيضًا جعلتهم ينتحرون أحيانًا.... وصرنا نرى ثقافة الانتحار.. ولماذا ينتحر المثقفون... بل هناك مؤلفات خاصة بهذه الثقافة... وكمثال ثمة موسوعة تضم 150 شاعرًا رفضوا النسخة الفاسدة من الحياة فانتحروا في القرن العشرين... الدوافع مختلفة... ولكن النتيجة واحدة!!