د. مجدي العفيفي صفعة يوسف إدريس!! و.. لا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». لحظة شاردة.. لحظتان.. ثلاث لحظات...وأنا أحدق في عبقرية هذا المكان، وأرى بفؤادي بصمات العظماء الذين شغلوه عقودًا من الزمن الحي، أشخاصًا وشخصيات، وإن كان الشخص يموت، أما الشخصية فتبقى، وقد رأيتهم بالعيون التي في طرفها وقار لهم، وإبهار موضوعي منهم وانبهار بهم، إذ عايشتهم بألفة صحفية، وعشت معهم بحميمية فكرية، وهو شرف لو تعلمون عظيم. هذا الإيمان ذو اليقين غير المراوغ يتجلى جدارًا لا ينقض، ولا ينبغي له، يستند المرء منا إليه في مواجهة الذين يتوهمون أنهم ينالون من مبدعينا، ومن ذا الذي يخدش الهرم؟ وكل رمز من رموزنا الفكرية والثقافية والإبداعية هو هرم في ذاته، فهم بكينونتهم وصيرورتهم وسيرورتهم علموا الناس الحب والحكمة والحياة، ولا يزالون، فالعصمة في يد الثقافة لكن أكثر الحاقدين لا يعلمون ولا يفقهون ولا يدركون. شرود يتغشاني وأنا ألملم طبقة هذا الطابق السادس ومعه الخامس، شرود له ما يبرره، يقرن مشهد بعض عظمائنا وهم يعلنون مواقفهم التي لم يحيدوا عنها، سواء في مؤلفاتهم أم في أطروحاتهم المنثورة هنا وهناك، وأجمل ما فيهم هو مطابقة التصورات للتصديقات في رؤاهم، مع موجة صهيونية عبثية صاخبة هذه الأيام تحاول أن تنال من كبرياء كبار مبدعينا، خاصة يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وعن الأول أتحدث في هذه الوقفة. و.. لا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». عشت هنا مع يوسف إدريس شخصًا وشخصية.. اقتربت منه كثيرًا.. صاحبته سنوات خصبة من عطائه.. عايشته أيامًا ولياليَ لا تحصى.. شاهدته وهو يكتب ويبدع ويمارس نشوة الكتابة، وكيف كان يتعاطى الإبداع، كم من مرة رأيت دماء الكلمات وأحشاءها على الأوراق.. رافقته في الأزمات التي كان يخوضها ببسالة، لا سيما من وحوش السلطان وفقهائه، وكيف كانوا ينهشون في فكره الحي، وهو لا يبالي، كانت جسارته أقوى وأشد، هم ذهبوا وهو بقي.. ذهبوا بألاعيبهم السياسية البهلوانية وبحجارتهم التي كانوا يرجمون بها إبداعه، وبقي هو بإبداعاته ومؤلفاته وكتاباته.. لا تزال «نداهته» تهتف وتحذر، من انتشار «العيب» واستفحال «الحرام».. ومن يعبث داخل «بيت من لحم» ومن يستخرج من «قاع المدينة» أناسًا أعظم ممن هم في قمة المدينة. من أكبر عناوين شخصية يوسف إدريس مواقفه التي هي آية موضوعيته! وجرأته التي بها استطاع أن يكسر القشور الصلدة لكثير من المحرمات والممنوعات والمحظورات في النفس والمجتمع والضمير، باستنطاق المسكوت عنه، واقتحام اللا مفكّر فيه، في الدين والسياسة والأخلاق الاجتماعية، برمزياته السياسية الممزوجة بالمحاذير الدينية، وتورياته الاجتماعية، وانتزاع الأقنعة وتجريد العقل من الأوهام، وتمييز الخيوط الدقيقة بين المعقول واللا معقول، ومواجهة المشكلات النوعية بالتعمق فيها وطرحها للجدل، واختراق الآفاق المسدودة بفتح الطريق للحوار حول كل شيء، لذلك وأكثر من ذلك كانت رسالتيَّ: الماجستير والدكتوراه عن إبداعات يوسف إدريس، الماجستير عن البناء الفني في القصة القصيرة عنده، والدكتوراه عن البناء السردي في رواياته، والاثنتان من جامعة القاهرة. و.. لا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». هنا.. ما بين الطابقين الخامس والسادس أشهد أن هذا المكان، المبنى والمعنى، لم يتقبل هرولة النقاد والمترجمين الصهاينة الذين كانوا يظنون أنهم مرحب بهم، وما ذلك بصحيح، فكل ادعاءاتهم كاذبة، وتتكسر على صخرة صمود وتحدي عظماء مفكرينا، فهؤلاء الصهاينة من مترجمين ونقاد وأدباء كانوا يتهافتون على ترجمة روائع الإبداع المصري بعد «كامب ديفيد»، كل منهم لم يكن مرغوبًا فيه، وإن تطاولوا وادعوا أنهم السبب في حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، كما حدث قبل أيام في احتفالية برحيل زعيمهم الناقد الصهيوني «ساسون سوميخ» الذي حاول لقاء يوسف إدريس، لكن مبدعنا العظيم رفضه رفضًا قاطعًا، كان يسعى إلى لقاء توفيق الحكيم فكان يرفضه أيضًا. و.. لا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». هنا.. في الطابق الخامس رأيت سوميخ الصهيوني، حيث كان ينتظر، أملا في مقابلة الدكتور يوسف إدريس الذي كان يرفض مقابلته رفضًا قاطعًا، إذ كان هذا الناقد يتهافت ويتلهف على المقابلة، رغم معرفته موقف يوسف إدريس الرافض بشكل مطلق للسلام والتطبيع مع العدو الصهيوني، شكلًا ومضمونًا، عاجلًا وآجلًا. وكنت مع يوسف إدريس ذات يوم من عام 1980 في مكتبه نتناقش حول كيفية استثماري لوجود يوسف إدريس والاستفادة من معاصرته في رسالتي للماجستير عنه، وجاء هذا الصهيوني ومكث في مكتبه وأهمله يوسف إدريس فترك مع سكرتيرته بعضًا من المطبوعات الضئيلة في الشكل، ثم المضمون بعد أن قرأتها، وقد كاد الكاتب العظيم أن يلقي بها في سلة المهملات.