أحمد عبدالمعطى حجازى فى الأسبوع الماضى بدأت حديثا عن صورة الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» كما رآها بعض الشعراء الأوروبيين أشرت فيه إشارات سريعة لبعض ما نظمه الشاعران الفرنسيان ألفونس لامرتين وفيكتور هيجو، وأنهيته بأبيات مما نظمه الشاعر الألمانى جوته فى مديح النبى وسماه «نشيد محمد» ووضعه فى صورتين مختلفتين: فى الصورة الأولى جعله كأنه حوار أداره بين على بن أبى طالب وزوجه فاطمة بنت محمد، لأنه كان يفكر فى كتابة مسرحية عن النبى بدأها بتجارب متفرقة كان منها هذا الحوار الذى أشرت إليه، وفى الصورة الأخرى حوًّل هذا الحوار إلى نشيد متصل أو قصيدة نقرأها أبياتا متتابعة، وقد ترجم الأستاذ عباس محمود العقاد هذه القصيدة فى كتابه «تذكار جيتى» ونشرها تحت عنوان «نشيد محمد أو فيض الإسلام». فيض الإسلام، لأن جوته فى نشيده هذا يرى محمدا أو يرى الإسلام فيضا قويا متدفقا ينبع من الذرى العالية ناصعا متألقا، وينهمر من السحاب، وقد أرضعته الملائكة الخير، وهو فى مهده بين الصخور المعشوشبة، ثم ينحدر فتيا صافيا متوثبا جذلان فرحا يجرف فى طريقه الحصباء، والورق الجاف، ويشد من خلفه جداول الربى، حتى إذا بلغ الوادى تفتحت الأزهار تحت أقدامه، واستعادت المروج نضرتها من أنفاسه، وانقادت له الأنهار، وهى تهلل وتهيب به، خذنا معك إخذنا معك نعبر معك الصحراء، ونجوب معك الآفاق، نخلع على البلاد أسماءها، وننشئ معك المدائن الزاهرة، ونشيد الأبراج العالية والقباب المتوهجة حتى نصل معك إلى البحر المحيط!. الإسلام فى هذا النشيد الذى لم أنقله بنصه ميلاد جديد للعالم يحيا بحياته، وينهض، ويستعيد شبابه، ويبنى مدنه ويعمرها، حتى يأتى اليوم الذى يصل فيه إلى البحر المحيط، وهو رمز الألوهية، فى بعض التفسيرات. هذه الرؤيا تفتح للإسلام أوروبا كلها، لأن فيها ثلاث فضائل تستطيع كل منها أن تنال الاعتراف والتصديق، إيمان جوته بما يقول، وهو ظاهر فى هذا التدفق، وهذا الانبهار، ودلالة ما قاله على سعة ما حصله من ثقافة الإسلام وفهمه له وانفعاله به، وأخيرا هذا الجمال الذى نؤخذ به رغم أننا نقرأ النشيد فى الترجمة العربية التى ربما كانت ترجمة عن ترجمة، كما هى فى كتاب العقاد الذى لا يتحفظ فى التعبير عن إعجابه البالغ بجوته رغم أنه قرأه، كما أعتقد بالإنجليزية لا بالألمانية لغته الأصلية، فإذا كان فى استطاعة الإسلام أن يكسب عقلا كعقل جوته وضميرا كضميره، فباستطاعته أن يكسب كل ذى عقل راجح وضمير يقظ. وهناك جانب لابد من الإشارة إليه، هو قدرة الإسلام الذى ظهر فى الشرق وانتشر فيه وامتزج بثقافته، وانتمى إليه وإليها على مخاطبة جوته، وهو رمز من رموز الغرب وثقافته، كيف تحقق هذا اللقاء؟ نستطيع أن نقول إنها عبقرية الإسلام، ونستطيع أيضا أن نقول إنها عبقرية جوته أو عبقرية الثقافة الغربية بشكل عام. لأن جوته ليس هو المثقف الغربى الوحيد الذى فهم الإسلام وتجاوب معه، وإنما شاركه فى هذا الفهم، وهذا التجاوب مثقفون غربيون كثيرون. هردر وهو واحد من أهم الكتاب والمفكرين الألمان الذين ظهروا فى القرن الثامن عشر كان يقرأ القرآن، ويتحدث عنه باحترام عميق، ونحن نقرأ فى سيرة جوته أن هردر صديقه المقرب هو الذى حثه على قراءة ترجمات القرآن، وقد مدح هردر الرسول صلى الله عليه وسلم فى كتابه «أفكار» وقال إن «مواهبه هى الأجنحة التى حلق بها عاليا». وكما فعل هردر فعل كاتب ألمانى آخر هو لسنج. وكما فعل جوته، وهردر، ولسنج فعل ريلكه، وريلكه شاعر من أهم الشعراء الألمان، عاش فى القرن التاسع عشر، واهتم بالفن إلى جانب اشتغاله بالشعر، وصحب النحات الفرنسى رودان، وزار مصر، ومن أهم أعماله مجموعته الشعرية التى سماها «مراثى دوينو» وفيها قصيدته «السوناتا» التى نظمها عن محمد وتحدث فيها عن التجربة الروحية العنيفة التى مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين وجد نفسه فجأة، وهو فى غار حراء أمام الملاك جبريل يحمل الصحيفة ويقول له: اقرأ! فيقول محمد: وما أقرأ! فيقول جبريل مرة أخرى: اقرأ! فيقول محمد: ماذا أقرأ؟ اقرأ باسم ربك الذى خلق!. وكما استطاع الإسلام أن يخاطب هؤلاء المثقفين الألمان استطاع أن يخاطب مثقفين فرنسيين كثيرين، لا مرتين، وفيكتور هيجو فى القرن التاسع عشر، وفى القرن العشرين وفى أيامنا هذه لويس ما سينيون، وجاك بيرك، وفانسان منصور مونتى، وميشيل شودكيفتش... شودكيفتش الذى ولد عام 1929 وتوفى هذا العام كان واحدا من كبار المستعربين الفرنسيين، وقد تخصص فى التصوف الإسلامى، وفى ابن عربى بالذات، وكان فى السابعة عشرة من عمره حين اعتنق الإسلام، وفى هذا يقول «أنا أسلمت بعد تجربة روحية مضنية لم أكن أجد خلالها جوابا على أسئلتى حتى اهتديت للإسلام».. وكان شودكيفتش أستاذا فى مدرسة «الدراسات العليا فى العلوم الاجتماعية».. وكان مديرا لدار «سوى» وهى من أكبر دور النشر الفرنسية. والذى نجده فى ألمانيا وفرنسا نجد مثله فى إنجلترا وأمريكا، وتوماس كارليل، وهو مثقف أسكتلندى كاتب ومفكر ومترجم جمع فى ثقافته بين الغرب والشرق، فكتب عن الثورة الفرنسية، وترجم رواية جوته «ولهلم مايستر» وكتب سيرة شيلر، وكتب «الأبطال» وهو أشهر مؤلفاته، وفيه يتحدث عن عدد من بناة الحضارة وصناع التاريخ فى مقدمتهم محمد، ومنهم دانتى، وشكسبير، ومارتن لوثر، ومحمد عند كارليل هو النبى البطل، وبطولته تتمثل فى إيمانه العميق برسالته، وعمله بها، وقناعته، وتواضعه مع أنه منشئ الأمة، ومؤسس الدولة، وقد أبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وسوف نكمل هذا الحديث فى الأربعاء القادم.