هذه هى الحلقة الأخيرة من حديثنا حول «محمد الحقيقي» وسنبدؤها بقصيدة لفيكتور هيجو بدأ بها المؤرخ الفرنسى الأمريكى جون تولان مقالته التى سماها «محمد العالمي». وفيكتور هيجو يتحدث فى قصيدته عن نابليون بونابرت الذى رأى فيه ما جعله يسميه فى نهاية القصيدة «محمد الغربي». على ضفاف النيل أقابله من جديد/ مصر تستضيء بأنوار فجره/ نجمه الامبراطورى يطلع فى الشرق/ منتصرا، ممتلئا حماسة،يتفجر ألقا ومهابة/ معجزة تدهش أرض المعجزات/ الشيوخ المسنون ويوقرون الأمير الشاب العاقل/ والشعب ينظر بخشية لأسلحته الغريبة/ وهو يظل ينام على القبائل المفتونة/ كما لو أنه محمد الغربي! وفيكتور هيجو فى هذه القصيدة يتحدث كما نرى عن نابليون فى مصر، والمجلة الأدبية الفرنسية التى نشرت القصيدة من ملفها عن «محمد الحقيقي» نشرت مع القصيدة صورة رسمها الفنان الفرنسى بيبرنارسيس جبران الذى عاش فى القرن التاسع عشر واستوحى صوره من أحداث التاريخ. وهو فى هذه الصورة يرسم بونابرت وقد وقف فى القاهرة أمام شعبها وشيوخها يعفو عن الثوار الذين تصدوا له وثاروا عليه أكثر من مرة لأنه أجنبى محتل. وهو يعفو عمن ثاروا عليه كأنه فى نظر فيكتور هيجو يتمثل بالرسول فى عفوه عمن حاربوه. وعلينا ألا نستغرب ما قاله فيكتور هيجو فى قصيدته وما صوره جبران فى لوحته، لأن نابليون كان يعرف الرسول ويتحدث عنه فى مصر وفى أوروبا ويعبر عن إعجابه به ويقول إنه قائد عظيم أنهض شعبه وحفزه للقيام بجلائل الأعمال. وكان مشرعا ومحاربا وحامل رسالة وفصيحا ومؤثرا وقادرا على الإقناع والتأثير ولهذا غير التاريخ. وفيكتور هيجو الذى عبر عن إعجابه بمحمد وهو يتحدث عن نابليون يعبر أيضا عن اقتناعه بمصر وحضارتها ويسميها «أرض المعجزات». وفى هذا الضوء نفهم القصيدة وما تشير إليه من قربب ومن بعيد، نفهم كيف انفتح الشرق والغرب كل منهما على الآخر، وكيف احتلت مصر مكانها فى الضمائر والعقول، وكيف أصبح محمد فى نظر الأوروبيين الذين قاموا بثوراتهم المتوالية فى هذا العصر الحديث من أجل الحرية والتقدم، كيف أصبح الرسول العربى تجسيدا لمبادئهم ولمثلهم الجديدة فى إنسانيته وعقلانيته وتسامحه وبساطته وبطولته، فاستطاع فيكتور هيجو الذى كان معجبا هو الآخر بالرسول أن يرى فى كل من يتصف بهذه الصفات أو ببعضها أثرا من محمد كما فعل حين مدح نابليون فقال عنه «كأنه محمد الغربي» الذى لم يعرف الغربيون حقيقته إلا فى هذه القرون الأخيرة. وكما كان هذا الشاعر الفرنسى الشهير معجبا بمحمد كان الشاعر الألمانى الشهير ولفجانج جوته معجبا به إعجابا يكاد يكون إيمانا به وبرسالته. جوته لم يكف طوال حياته عن الحديث عن محمد مع نفسه ومع غيره من الكتاب والشعراء الألمان والأوروبيين الآخرين. وقد تبنى جوته موقف الإسلام من التوحيد والتنزيه المطلق. فالله لا يتمثل فى شيء أو فى شخص، والله يخاطب الخلق برسله، والإسلام لا يعتد بالخوارق والمعجزات، بل يعتد بالعقل، والقرآن هو معجزة الإسلام التى عكف عليها جوته يقرأ ويعلق ويفسر ويترجم فى أشعاره ويستلهم كما فعل فى المسرحية الشعرية التى خطط لكتابتها باسم «تراجيديا محمد»، ومنها قصيدة المديح التى سماها «نشيد محمد» وأجراها على لسان على بن أبى طالب وفاطمة الزهراء زوجته بنت النبي. وهذه مقاطع منها أنقلها عن كاترينا مومزن التى تحدثت عنها فى كتابها «جوته والعالم العربي». وقد ترجم هذا الكتاب عدنان عباس على وراجعه عبد الغفار مكاوى وصدر فى سلسلة «عالم المعرفة» بالكويت: علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلى .. أبلج متألقا كأنه الكوكب الدري. فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير فى مهده بين الصخور والأدغال. وهنا ننتقل إلى ما كتبه محمود حسين عن «محمد الحقيقي». ومحمود حسين اسم واحد لكاتبين مصريين اثنين هما بهجت النادى وعادل رفعت اللذان جمع بينهما النضال السياسى فى صفوف اليسار فى مصر والنشاط الثقافى فى فرنسا حيث يقيمان الآن منذ ما يقرب من خمسين عاما. وهما يتحدثان عن صورة النبى فى السير والأخبار التى قدمها المؤرخون المسلمون الذين ظهروا بين أواسط القرن الثامن الميلادى وأواسط القرن العاشر، ومنهم ابن إسحق، وابن هشام، وابن سعد، والطبري، والواقدى وسواهم ممن تحدثوا عن النبى وأرخوا له فى حياته كإنسان وحياته كرسول فأصبحت شخصيته حية حاضرة لدى المسلمين ولدى كل من يريد أن يطلع عليها. لكن الأسئلة مازالت تطرح، لأن السيرة لم تكتب إلا بعد وفاة الرسول بنحو قرنين باعدا بين المؤرخين وبين الأحداث والأشخاص الذين كانوا مادة لهذا التاريخ، إلى أن الصراعات التى نشأت بين الفرق الاسلامية المختلفة وبين الأمويين والعباسيين وغيرهم ممن كانوا فى السلطة أو كانوا ضدها هذه الصراعات كان لابد أن تؤثر تأثيرا سلبيا على بعض المؤرخين الذين خضعوا لضغوط الحكام أو انساقوا وراء مواقفهم أو نقلوا عن غيرهم ما لم يمتحنوا صحته، وهكذا نرى أن مصادر السيرة متوافرة، لكنها فى حاجة لأن تراجع بالشروط المنهجية التى يجب أن تراعى فى كتابة التاريخ. هل وجدنا فى هذا الملف ما نستطيع أن نستفيد منه؟ نعم. نستطيع أن نعرف منه أن الإسلام ليس مجرد عقيدة تهم المسلمين وحدهم، ولكنه حضارة وتاريخ وواقع راهن يهم البشر جميعا ويستطيع أن يكون مجالا للحوار والتفاهم والتآخى بين المسلمين وغير المسلمين بدلا من أن يكون مجالا للتعصب والتطرف. ونستطيع أن نستفيد من الأسئلة المطروحة فى هذا الملف ومن الاجابات المقترحة فيه. ونستطيع أن نجد فيه دليلا على أن مايشغلنا يشغل غيرنا. والذين قرأوا كتابات هيكل وطه حسين والعقاد وأحمد أمين وعبدالرحمن الشرقاوى وحسين أمين وسعيد العشماوى يلمسون هذه الحقيقة ويدركون ما تدل عليه. لمزيد من مقالات بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى