يبدأ الملف الذى خصصته «المجلة الأدبية الجديدة» الفرنسية للحديث عن النبى العربى وجعلت عنوانه «محمد الحقيقى» يبدأ بصورة النبى كما قدمها الباحثان ميكيل بريفو وإسماعيل سعد: وهما بلجيكيان، الأول تخصص فى دراسة اللغة العربية والتاريخ المقارن واعتنق الإسلام، والآخر من أصول مغربية حصل على الجنسية البلجيكية والتحق بوظيفة حكومية، ثم تركها ليشتغل بدراسة التاريخ الإسلامى ويؤلف مع زميله كتابا عن الرسول يردان به على الصورة المشوهة التى يقدمها عنه الارهابيون المسلمون والصورة الأخرى التى يقدمها المتطرفون الأوروبيون ولا تختلف فى شىء عن الصورة الأولى. فى الرد على هؤلاء وهؤلاء أعدت المجلة الفرنسية ملفها وبدأته بما قدمه الباحثان البلجيكيان عن النبى اعتمادا على سيرته منذ بدايتها. فهو طفل بدوى يتيم انطلق من هذه الظروف الصعبة ليشق طريقة ويبشر بدين جديد ويؤسس حضارة، فرضت نفسها على العالم، وانتقلت به من ظلمات العصور الوسطى لتضعه على أبواب العصور الحديثة وهذه الصورة التى يقدمها الباحثان البلجيكيان للنبى فى هذه الأيام هى الصورة التى رسمها المثقفون الأوروبيون للنبى فى عصر الأنوار. وعصر الأنوار هو العصر الذى تطور فيه العقل الأوروبى على النحو الذى نراه فى التيارات العقلانية والمناهج النقدية والتجريبية التى حلت محل المسلمات القديمة فى القرن الثامن عشر لاسيما فى فرنسا فظهر فولتير، وديدرو، وروسو وغيرهم ممن عارضوا ثقافة الكنيسة ورفعوا راية العقل واكتشفوا العالم من جديد، فكان الإسلام ونبيه ضمن اكتشافاتهم التى استعانوا بها فى التعبير عن إنسانيتهم والدفاع عن مناهجهم العقلية. لقد وجدوا فى القرآن ما يؤيد هذه المناهج ويدعو لها. وجدوه يحث الناس على التعقل ويدعوهم للتأمل والتفكير واستفتاء القلب والاستجابة للفطرة والنظر فى الطبيعة، ويقول إن العقل هو الطريق إلى العلم، وهو الطريق إلى الإيمان. والمعجزات والخوارق لاتمثل فى الإسلام شيئا ولاتحتل فيه المكان الذى يحتله العقل والتجربة. وفى هذا يقول الامام محمد عبده: الإسلام لايعتمد على شىء سوى الدليل العقلى والفكر الإنسانى الذى يجرى على نظامه الفطرى فلا يدهشك بخارق العادة، ولا يغشى بصرك بأطوار غير المعتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولايقطع فكرك بصيحة إلهية. من هنا كان اكتشاف المثقفين الأوروبيين، له فى عصر الأنوار الذى راجعوا فيه الصورة الكريهة التى كانت الكنيسة تقدمها للإسلام ونبيه، وترجموا القرآن ترجمة حاولوا أن تكون أمينة، ورسموا للنبى صورا اعترفوا فيها بقدره وبدوره المؤثر فى ثقافة البشر وحضارتهم، ووضعوا أيديهم على العلاقة الوثيقة بين عقلانية الإسلام وإنسانية نبيه التى عبر عنها فى قوله وفعله. يقول ابن ماجة فى سننه: أتى النبى رجل يكلمه فأرعبه، فقال: هون عليك! فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد. والنبى الإنسان مبدأ من مبادىء الإسلام وعقيدة من عقائده «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد»، هذه الآية التى نقرأها فى سورة «الكهف» تتكرر بنصها أحيانا وبنصوص أخرى فى سور أخرى. ومحمد إذن هو النبى الانسان، نبوته لاتتعارض مع إنسانيته التى تستند للعقل. وإنسانيته لاتحول بينه وبين تجاوز الظاهر المرئى والإيمان بوحدانية الله وتنزيهه وعدم اتصافه بأى صفة من صفات المخلوقات. ونعود إلى عصر الأنوار فى أوروبا فنقول إن إنسانيته وعقلانيته تجسدتا فى محمد الذى نظر إليه جوتة، وفيكتور هيجو، وتوماس كارليل بوصفه بطلا من أبطال الإنسانية يعترف ببطولته البشر جميعا على اختلاف عقائدهم الدينية. وهذه هى الصورة التى تقدمها المجلة الفرنسية. للنبى، فى مقابل الصورة الشائهة التى يقدمها له الإرهابيون المسلمون من خلال انتسابهم الكاذب للنبى وادعائهم أنهم يمثلونه ويطبقون شريعته، ويشاركهم الفاشيون الأوروبيون الذين يجعلون الإرهاب والارهابيين حجة ضد الإسلام والمسلمين.
وننتقل فى الملف إلى ما كتبه نديم جورسل، وهو كاتب تركى يعيش فى باريس ، وله مؤلفات بالفرنسية منها كتاب سماه «حياة محمد الأخرى» وهو فى مقالته عن محمد فى الشعر الغربى يشير إلى صورتين متناقضتين، صورة سلبية يراها عند دانتى الذى يتحدث فى «الكوميديا الإلهية» عن الرسول بعنف بالغ، رغم أن الكوميديا الآلهية مبنية على أصول اسلامية. ويراها عند فولتير الذى يهاجم فى مسرحيته «محمد» ما اعتبره تعصبا، لكنه فى الحقيقة لم يكن يهاجم الإسلام، وإنما اتخذه قناعا يهاجم من خلفه الكنيسة. أما الصورة الإيجابية فقد ظهرت فى الحركة الرومانتيكية التى فتحت الغرب على الشرق وخلصت الإنسان من القيود الموروثة والقواعد الشكلية وأعادته إلى حضن الطبيعة وأيقظت فيه براءته وفطرته الأولى. الشاعر الفرنسى ألفونس لامرتين يقول عن الرسول إنه كان شجاعا، كريما، وسيما، حالما. وكان وديعا لكنه كان أيضا محاربا بطلا. ويقول إن هذه الفضائل الفروسية اجتمعت فى محمد قبل أن تظهر فى أوروبا. وإذا كانت بطولة محمد وفروسيته هى التى شدت لامرتين، فبساطة محمد وتواضعه وعمق إيمانه بالإله الواحد هى التى وقف عندها فيكتور هيجو فى مجموعته الشعرية «أسطورة القرون» التى حول فيها التاريخ إلى ملحمة عبر فيها عن نضال الانسان من أجل الحرية، وفى هذه الملحمة كان الرسول حاضرا، وكان نابليون الذى وجد فيه فيكتور هيجو ملامح تذكر بالنبى العربى. ويصح أيضا أن نقول إنه وجد فى النبى العربى ما يجعله نموذجا ومثلا أعلى نرجع إليه حين نرى فى أى إنسان فضيلة من فضائله. ونكمل هذا الحديث فى الأسبوع المقبل لمزيد من مقالات ◀ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى