مازال التاريخ يحفظ فى ذاكرته مواقف النخب العربية من المثقفين والمفكرين والمبدعين ورجال الدين.. هذه النخب هى التى قادت مسيرة شعوبها نحو الاستقلال والحرية وخاضت الحروب والمعارك دفاعاً عن الأرض والكرامة.. فى كل دولة عربية كنت تجد رموزاً أضاءت وحررت ودافعت ومنها من بذل الأرواح والدماء.. لدينا تاريخ حافل بقائمة طويلة من هذه الرموز التى سجلت أمام العالم صفحات من الكفاح مازالت تعيش فى وجدان شعوبها وفى كل بلد ميراثاً عريقاً من التضحيات.. فى هذه الأيام الصعبة التى تعيشها البلدان العربية أمام تحديات غير مسبوقة تطل هذه الصور أمام الشعوب التى تجمعت عليها حشود الذئاب دماء وعدواناً وخراباً وانتقاماً.. تطل علينا الآن صور أبطال تصدروا مسيرة الشعوب وكانوا أبطالا.. من منا لا يذكر ثورة 19 فى مصر وزعيمها سعد زغلول الذى قاد الشعب نحو الحرية والاستقلال، ومن ينسى عرابى سجين الحرية ومن لا يذكر مصطفى كامل ومحمد فريد.. ومن لا يذكر الآن عمر المختار المناضل والمقاتل العظيم وهو يواجه الاحتلال الايطالى بكل العزم والإيمان فى ليبيا ومن ينسى عبدالقادر الجزائرى فى الجزائر وعبدالكريم الخطابى فى المغرب وأبو رقيبة فى تونس والأزهرى فى السودان وعبدالعزيز آل سعود في السعودية والشيخ زايد آل نهيان في الإمارات.. هذه الأسماء صنعت زماناً جديداً وحررت أوطاناً فى أصعب الظروف وأدق اللحظات.. لقد شهدت هذه الرموز نهاية عصور الاحتلال وحررت بلادها وصانت تراب أوطانها ويكفى أن العالم شهد معها سقوط أكبر الإمبراطوريات في العالم ما بين انجلترا الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس والإمبراطورية الفرنسية وقبل هؤلاء سقوط الخلافة العثمانية وغروب شمسها بعد عصور احتلال دامت مئات السنين.. سقطت كل هذه القوى الدولية وخرجت الدول العربية من عصور الاحتلال والتخلف وتحررت بأيدى شعوبها وكانت ثورات التحرير والاستقلال والكرامة.. من يصدق الآن ما يحدث على الساحة العربية.. إن السؤال الصعب أين ذهبت هذه النخب التى صنعت كل هذه الإنجازات وإلى أين ذهبت هذه الرموز العظيمة فى كل شيء فى السياسة والحرب والفكر والإبداع والفنون وحب الأوطان والانتماء الحقيقي للقضايا والأفكار؟!. إن صورة النخبة من كل التخصصات سقطت جميعها فى مواكب النفاق والانقسامات والمصالح والارتزاق إذا فتحت قضايا الدين فأنت أمام شيع وأحزاب وجميعها تحركها أغراض وأموال ومذاهب وتسأل أين الدين الحقيقى بشرائعه وقواعده ومصادره ولا تجد غير هذه المعارك التى شوهت كل شيء بشراً وأفكاراً ومصادر وتحاول أن تجد شاطئاً من اليقين تأوى إليه ولا تجد إلا كارهاً لدينه أو متعصباً متشدداً على غير هدى وللأسف الشديد أن الدين، حين اختلت قواعده سقطت معه ثوابت كثيرة وانتقل الصراع من الأفكار إلى المواقف وحمل الجميع السلاح وكانت المواجهات الدينية التى أفسدت الدين والدنيا معاً.. فى يوم من الأيام عرفت بعض الدول العربية وإن كانت قليلة شيئا يسمى الأحزاب السياسية وأدركت معنى الحوار السياسى بل ان بعض هذه الأحزاب قدم للسياسة العربية رموزاً ومواقف ولكن هذه الأحزاب سقطت فى صراعات فكرية لم يكن غريبا أن تتحول إلى أبواق للسلطة وكانت النتيجة أن السياسة غابت وبقيت الأبواق وكانت النتيجة أن تحولت هذه الأحزاب إلى بوتيكات تعمل لحساب كل صاحب سلطة أو قرار.. هل يعقل انه لا توجد دولة عربية الآن يوجد فيها حزب سياسى حقيقى صاحب فكر أو برنامج أو رموز.. أين الأحزاب العربية وأين رموزها.. انهم جميعا هاربون فى المنافى يبحثون عن أوطان أو مصالح أو سلطات تحميهم. إن حالة الانقسام والتشرذم التى أصابت النخب العربية قد حولتها جميعا لأوكار للمصالح وليس غريبا أن نجد شخصاً كان بالأمس قومياً وقد خلع ثيابه وانضم لصفوف الأعداء أو تجد يسارياً بلا هوية أو دينيا بلا يقين وأصبحت هناك فرق من المثقفين العرب حسب المصالح والأهواء.. هذا فارسى وهذا تركى وهذا حزب الله وهذا نفطى وهذا أمريكى أو أوروبى.. إن انقسام النخبة العربية، كان أكبر أسواق البيع والشراء وكان أسوأ ألوان الدمار الفكرى والثقافى والسياسى الذى تعرضت له هذه الأمة.. إن من يتابع أحوال هذه النخبة الآن فسوف يكتشف أنها غابت أو أهملت أو تآمرت وفى دول عربية سوف ترى هذه الظواهر وقد انعكس ذلك فى صور كثيرة على أحوال شعوبها ما بين الحروب الأهلية والانقسامات الدينية وسيطرة المصالح وكانت الشعوب هى الضحية حاضراً ومستقبلا يكفى أن هناك نخباً غابت فى العراق وسوريا وليبيا ولبنان وإذا حاولت اليوم أن تبحث عن رمز فى الفكر أو السياسة أو الإبداع فى أى دولة عربية فلن تجد غير أصوات الزمن البعيد.. إن هذه النخب تشكلت فى مناخ وظروف فريدة ولهذا وضعت شعوبها فى أعلى الأماكن إلا أننا الآن أمام واقع تحكمه المؤامرات والأطماع والفيس بوك والنت ومواقع التواصل الاجتماعى وأصبحت الشعوب بالملايين تحركها أهداف مشبوهة لا احد يعرف عنها شيئا.. نحن الآن أمام أجيال تتشكل فى ظل واقع غريب، نحن أمام حشود من المرتزقة تستأجرها قوى أجنبية من دولة عربية لكى تحارب فى دولة عربية أخرى، نحن الآن أمام حشود مستأجرة تحتل أراضي عربية أمام أطماع استعمارية مأجورة.. إن هذه الأجيال الجديدة من المرتزقة لا تجد من يوجهها أو يحدد لها الطريق السليم.. هل يمكن أن تجد هذه الحشود رموزاً تحررها من الفكر المتطرف وهل يمكن أن يخرج منها فى يوم من الأيام مفكر كبير أو سياسى بارع أو صاحب دور أو رسالة؟!. إن حالة التفكك التى أصابت عقل هذه الأمة وأدت إلى الانقسامات والمواجهات بل والكراهية كانت السبب الرئيسى فى غياب واختلال ثوابتها، ويبقى السؤال: إذا كانت الرموز القديمة قد رحلت أو غابت أو تشردت أمام نظم قمعية مستبدة فماذا عن المستقبل؟! هل يمكن فى يوم من الأيام أن تستعيد الشعوب رشدها وهل يمكن أن تواجه حشود الطامعين فيها وفى أرضها وثرواتها؟! إن القضية الآن قضية حياة ووجود ولا يمكن أن تفرط الشعوب فى مقدراتها وأمانها واستقرار أحوالها. قد يرى البعض أن غياب النخبة لم يكن بكل هذه الآثار السيئة على الشعوب ولكن من يقرأ الواقع العربى وما يجرى فيه الآن سوف يدرك أن النخبة لم تكن فقط مجموعة من المثقفين الذين صاغوا حياة الشعوب فى الفكر والسياسة والأخلاق والمبادئ ولكنهم سلموا أجيالا حاربت من اجل أراضيها وكان منهم الطبيب والمعلم والجندى والسياسى والمفكر.. إن النخبة هى التى تصنع الحوار وتقدم القدوة وتنير الفكر والوجدان.. إن هذه النخبة التى اقصدها هى التى حررت إرادة الشعوب فى كل الأقطار العربية.. كان الأستاذ هيكل يقول إن القصيدة هى خيوط الحرير التى تعبر عليها الدبابة ومنذ افتقد العالم العربى دور النخبة ومواقعها فى حياة الشعوب سقطت أشياء كثيرة، لقد تراجعت قيمة العقل وسيطرت مواكب الخزعبلات والسطحية وانهارت حشود السياسة وسيطرت حشود المرتزقة واختفت أركان الدين الحقيقى وسادت الساحة مواكب المدعين من كل فكر ولون وجهالة.. لم يكن اختفاء النخبة العربية حدثاً عادياً، لقد كان أكبر جريمة لحقت بشعوب هذه الأمة. منذ غابت النخبة لم يعد أحد يتحدث عن قضايا هذه الأمة ابتداء بقضية فلسطين وانتهاء بالصراع العربى الإسرائيلى بل ان صوت الدعوات الفجة بالتطبيع أصبح عاليا ومجلجلا في عواصم عربية كثيرة.. لم يعد احد يتحدث عن شيء كان يسمى العروبة بل إن هناك من يسخر منها ويتندر بها.. لم يعد أحد يتحدث عن اتفاقيات التعاون بين الدول العربية لا مكان الآن للتنسيق فى أى شىء فى كل ما تتعرض له الدول العربية من الأطماع والتهديدات هناك دول عربية تتآمر على أشقائها وتجلب الجيوش وتوقع المعاهدات وتقيم القواعد العسكرية التى تهدد بها الأهل والجيران ولا توجد جهة واحدة تدين ذلك أو ترفضه.. إن النخبة العربية كانت دائما آخر الخيوط التى تحافظ عليها الشعوب حين تتقطع الوسائل وتسقط أركان الوعي والحكمة. إن الحديث عن غياب النخبة العربية التى كثيراً ما اجتمعت حولها الشعوب يثير كثيراً من الأحزان والشجون ونحن نقف حائرين وعاجزين أمام شعوب تحارب بعضها وأوطان دمرتها الصراعات والانقسامات وجيوش كانت درعاً للحماية وموارد كانت ملاذاً لأهلها ولكن كل ذلك غاب حتى عقل الأمة الواعى المستنير أصبح الآن عبئاً ثقيلاً عليها.. ويبقى الشعر فى كُلّ عام ٍ.. تشْرقينَ على ضِفافِ العُمر.. تَنبتُ فى ظلام الكون ِ شَمسٌ يَحتوينى ألفُ وجْهٍ للقمرْ فِى كُلّ عام ٍ.. تُشْرقينَ علَى خَريفِ القلبِ يَصْدَحُ فِى عُيُونِى صَوْتُ عصفور ٍ.. وَيسْرى فِى دِمائى نَبضُ أغنيةٍ وَيغزلُ شَوقُنا المْجنونُ أوراقَ الشَّجَرْ فى كُلّ عام ٍ.. تُشرقينَ فراشة ً بَيْضَاءَ فوقَ بَرَاعِم الأيَّام تَلْهُو فوْقَ أجنحةِ الزَّهرْ فِى كلّ عَام ٍ.. أنتِ فِى قلبى حَنينٌ صَاخبٌ.. وَدُموعُ قَلبٍ ذابَ شوْقًا.. وانْكَسرْ فِى كُلّ عام ٍ.. أنتِ يَا قدرَى طريقٌ شائكٌ أمْضى إليْكِ عَلى جَنَاح الرّيح ِ يُسْكرُنِى عَبيُركِ.. ثمَّ يترُكنى وَحِيدًا فى مَتَاهاتِ السَّفرْ فِى كُلّ عام ٍ.. أنتِ فى عُمرى شِتاءُ زوَابع ٍ وَربيعُ وَصْل ٍ.. وارتعاشاتٌ.. يدنْدنُهَا وَترْ فِى كُلّ عام ٍ.. أنتِ يَا قدرى مَواسِمُ فَرْحةٍ تَهْفُو الطُّيورُ إلى الجَدَاول.. تنتشي بالضوءِ أجْفانُ النَّخيل ٍ وترتوى بالشَّوقِ أطْلالُ العُمُرْ فِى كُلّ عام ٍ.. كَنتُ أنَتظِر المواسمَ قد تجىءُ.. وقَدْ تُسَافِر بَعدَمَا تُلْقِى فُؤَادِى للحنِين.. وللظُّنِون.. وللضَّجَرْ فِى كُلّ عام ٍ.. كَانَ يَحْمِلنى الحَنِينُ إليْكِ أغفُو فِى عُيونِك سَاعة ً وَتُطلُّ أشبَاح الوَداع نَقُومُ فى فَزَع ٍ.. وَفِى صَمْتِ التوحُّدِ نَنْشَطِرْ أنَتِ الفُصولُ جَميعُهَا وَأنَا الغَريبُ على رُبُوعِكِ.. أحملُ الأشواقَ بينَ حَقائِبِى.. وَأمامَ بَابكِ أنتظِرْ أنتِ الزمَانُ جَميعُه وَأنا المسَافرُ فى فصُول العَام ِ.. تحْملُنى دُروبُ العِشق ِ.. يَجْذبنى الحنَين ُ.. فأشْتَهى وجَهَ القمرْ وَأظلُّ أنتظرُ الرَّحيل مَعَ السَّحابِ.. وَأسْألُ الأيامَ فى شوْق ٍ: مَتَى.. يَأتى المطْر؟ قدرٌ بأنْ نَمْضى مع الأيَّام ِ أغْرابًا نُطاردُ حُلمَنَا وَيضيعُ منَّا العمْرُ.. يا عُمْرى.. ونحْنُ.. علىَ سَفرْ نقلا عن صحيفة الأهرام