اتسم مناخ مدينة الإسكندرية أمس بالبرودة، مع هطول الأمطار ما بين كثيفة ثم غزيرة لساعات طويلة.. بيد أن ما دار داخل ندوة "الدستور الجديد وطموحات المصريين"، التى نظمها منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية بالإسكندرية، كان بإمكانه إذابة جليد مدينة بأكملها خلال دقائق، وليس فقط تدفئة أركان القاعة التى شهدت سجالات عديدة تراوحت ما بين عنيفة أحيانا إلى دبلوماسية أحيانا أخرى. عنوان الندوة، التى اعترف الدكتور القس أندريه زكي أنه أدارها بصعوبة لا يعدو كونه مجرد عنوان تعدته المناقشات إلى عناوين أخرى، فكان الخلاف واضحا بين التيار الإسلامي في الندوة، الذي مثله بعض الشيوخ من وزارة الأوقاف، بالإضافة إلى حزبي "الحرية والعدالة" و"النور"، وبقية القوى السياسية الأخرى من ليبراليين ويساريين. فالخلاف لم يكن ديني سوى في بعض اللحظات خاصة مع تفسير المادة الثانية من الدستور ومدى أهميتها وكيف تتواءم مع المسيحية، علما بأن جميع من شارك بالحديث لم يرفض المادة الثانية، وإنما تركز الخلاف في كيفية استيعابها كل مواطني مصر، باعتبار أن كل شخص مواطن وله نفس الحقوق وذات الواجبات. العامل الديني تداخل مع السياسي حتى قبيل بدء الندوة ، للتى لم يكد آذان المغرب يحين موعده حتى ترك الشيوخ والمنتمين إلى الأحزاب السياسية مقاعدهم ليتوجهوا إلى خلف القاعة لأداء الصلاة ، هذا الموقف أثار تساؤلات بعض الحاضرين عما إذا كانت تلك هي روح العصر الجديد، أم أنه كان يجب الانتظار لحين انتهاء الندوة، أو اختيار مكان آخر للصلاة خارجها، وتعالت بعض الهمهمات من القوى الليبرالية -وليس المسيحيين- استياء من أداء الصلاة داخل القاعة، ليتذكروا واقعة الأذان داخل مجلس الشعب. الخلاف الأبرز في الندوة كان في سوء فهم من بين بعض الحاضرين لما ذكره متحدثو المنصة، وهم بترتيب الكلام المستشار محمود الخضيري رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب، ثم المستشارة نهى الزيني خبيرة النظم السياسية والقانون الدستوري، انتهاء بالدكتور هشام صادق أستاذ وخبير القانون الدولي بجامعة الإسكندرية. ولم يكن هذا فقط هو الخلاف الوحيد، إذ شهدت المناقشات سخونة في مواقع عديدة خاصة عندما حاول بعض الحاضرين الإسهاب فى شرح مواقفهم والخروج عن عنوان الندوة وتجاوز الوقت المخصص لهم، مما دفع مدير الندوة لمقاطعتهم، بعد تنبيههم أكثر من مرة بسبب الجور على حق الآخرين فى الكلام. ولم يكن حديث المستشار الخضيري مهضوما من البعض، عندما أشار إلى كيفية تمثيل لجنة المائة المنوط بها إعداد الدستور الجديد، وتحديده نسبة البرلمانيين بها – مجلسي شعب وشوري– بعشرين فى المائة على أن يمثل خبراء القانون الدستوري وأطياف المجتمع من نقابات وعمال وفلاحين وقوي سياسية النسبة المتبقية. فالبعض رأي أن تمثيل البرلمانيين فى لجنة المائة هو تجاوز غير مقبول، وحيثياتهم فى هذا هو أن الشخص المنتخب لا يجب تمثيله فى اللجنة التأسيسية، لأنه سيمثل حزبه وآراءه السياسية أو الإيدلوجية، وبما أن الدستور دائم والشخص المنتخب متغير، فلا يجب اعتماد الدائم على المتغير، والأولى أن يكون أعضاء لجنة المائة من خارج البرلمان من ذوي الكفاءات والجمعيات والنقابات والأقباط والمرأة، أي تمثيل مجتمعي شامل يعبر عن إرادة الشعب وطموحاته لكي يخرج الدستور متوافقا مع الجميع ويمثل كل الآراء والاتجاهات. وقد حاول المستشار الخضيري توضيح وجهة نظره فى هذا خلال كلمة التعقيب قبيل انتهاء الندوة، لكن الوقت الضيق لم يسعفه لتمرير ما يراه صوابا. وكان الخضيري قد بدأ كلمته بإعرابه عن أمله في أن يكون المستقبل أفضل، وعندما طرح تساؤله الأول: "احنا رايحين على فين؟".. هو نفسه الذي وضع الجواب: "إن شاء الله سكة السلامة بعدما قضينا على سكة الندامة".. وأشار الخضيرى مزايا ثورة 25 يناير، حيث كانت بداية للأمل والإصلاح، رغم كل صعاب وأزمات الفترة الانتقالية التى مرت حتى الآن. وقد غلب الخطاب الديني على كلمات الخضيري، كما بدا أنه أراد أن يعرج إلى الماضي نوعا ما، عندما تحدث عن أهمية المواطن وحقوقه، خاصة عندما قال إن بعض القوى السياسية ومنها هو – مشيرا إلى نفسه بالقول- كافحت (كافحنا وحصلنا) على ضمانات في انتخابات 2005 منها الحبرالفوسفوري والصناديق الزجاجية وتوقيع الناخبين، لكن فساد السلطة آنذاك وعدم توفر الإرادة السياسية لديها تسبب فى خروقات كثيرة. واذا كان المستشار الخضيري لم يتجاوز تقريبا مدته الزمنية التى حددها الدكتور أندريه زكي لكل متحدث على المنصة، فإن الدكتورة نهى الزيني طلبت زيادة وقتها المخصص مرتين، حتى تستطيع شرح مضمون كلمتها وركزت على عملية بناء الدستور الجديد بعد الثورة، فالدستور كما وصفته هو معاهدة سلام داخلية مثلما الحال تماما فى توقيع معاهدات السلام بين الدول بعد الحروب، ويلزم لتوقيع المعاهدة إحداث توازن بين الأخذ والعطاء والتزام الجميع تطبيق ما جاء بها، وأن تكون صالحة للتطبيق. فإذا كانت المعاهدات من شأنها تحقيق السلام الدولي، فإن الدستور هو الآلية الفعالة لحل الصراعات وتحقيق السلام الاجتماعي. لم يفت الزيني الإشارة إلى نقطة مهمة وهى أن التوافق المجتمعي يخلق بيئة مواتية لإحلال السلام الاجتماعي وإعادة البناء والتعمير، لأن الأنظمة المستبدة تحاول اللعب على وتر الخلافات وإحداث الصراعات، أما إذا حدث توافق مجتمعي فهذا أمر يهدد الحاكم المستبد.. وهذا يفسر قول مبارك قبل تنحيه "أنا أو الفوضى"، لأن مثل هؤلاء الحكام يحذرون من أن اندلاع أي ثورة سوف تهدد البلاد، ويشيعوا بعدها أنها التى جاءت بالفوضى والصراعات المخيفة. لم تقصد الزيني أن يكون حديثها مخيفا للحضور، لانها طرحت الحلول ممثلة فى دور القدوة والنخبة والشباب، وهنا يأتي دور معاهدة السلام التى تخمد الصراعات وتجعلها تنكمش، ثم يعيش المختلفون فيما بينهم إلى العيش فى سلام، وهنا يأتي السؤال الأهم على لسان الزيني: "من يصنع الدستور؟".. الإجابة تحددها باقتضاب وسهولة: "الجميع يجب أن يشارك فى صنع الدستور على قدم المساواة". إلى هنا لم تكن هناك أية خلافات بين كلمات المتحدثين، إلى أن بدأت المستشارة نهى الزيني في شرح ماهية المشاركين فى صنع الدستور الجديد، لتدخل فى خلاف ضمني مع أقوال الخضيري، الذي سبق وحدد عشرين في المائة من أعضاء مجلسي الشعب والشوري، لتختلف معه الزيني: " في هذه المرحلة يكون الدستور هو معاهدة سلام، فلابد أن يشارك فيه جميع من في المجتمع، قوى سياسية، مهمشين، وجميع الأطياف والقانونيين".. ورويدا رويدا تتجه الزيني إلى الخلاف مع الخضيري: "من الخطأ إدماج الهيئة التشريعية مع الهيئة التأسيسية للدستور، فالأولى مسئولة عن وضع القوانين، أما الثانية هى أعلى الهيئات، وهذا من أخطاء خريطة الطريق، التى ضمنت الهيئة التشريعية إلى التأسيسية للعمل معا، والمطلوب فك هذا الترابط لمنع الاستبداد. أما المتحدث الثالث وهو الدكتور هشام صادق، فركز كلمته على ضرورة أن يكون الدستور توافقي، بمعنى أن يكون بالتوافق وليس بالأغلبية، فالأغلبية تختار برلمان ورئيس، وهذا البرلمان غير دائم والرئيس له فترة محددة تتمثل فى تداول السلطة، أما الدستور فالأصل فيه ديمومته، ولذلك يجب أن يقوم على التوافق، الذي يعني أيضا التوافق بين كل شرائح المجتمع، المسلم والمسيحي، الغني والفقير، الرجل والمرأة، المجتمع المدني بكل أطيافه، الفلاحين والعمال. ثانيا أن يستجيب الدستور الجديد لمبادئ حقوق الإنسان التى لا تختلف عن المبادئ العامة المستبدة من الأديان السماوية. وأسهب صادق فى شرح التوافق بين فكرة الدولة المدنية مع حقوق الإنسان خاصة إذا أحسنت النوايا. ولم يشأ المتحدث الثالث هو الآخر أن يترك خلاف (الخضيري/ الزيني) بشأن مشاركة البرلمانيين فى الهيئة التأسيسية، فأدلى بدلوه: "البرلمان لا يصنع الدستور ولا يشارك فيه، حتى لا يكون خصما وحكما، فلن يكون حياديا في ذلك".. بالإضافة إلى ضرورة عدم الاعتماد على خبراء القانون والدستور في كتابة الدستور: "شفنا منهم الكثير من المساوئ".. في إشارة إلى ترزية القوانين، الذين خدموا النظام السابق. ثم تطرق الدكتور هشام صادق إلى المبادئ الحاكمة للدستور، التى لا تجيز للأغلبية أن تقهر الأقلية مع ضمان حقوق الإنسان، وتؤكد أن الدولة مدنية تقوم على الحرية والديمقراطية والعدالة. وكل هذا لا يراه صادق متناقضا مع المادة الثانية فى الدستور لأن الاسلام فلسفته الوسطية ولا يتعارض ما ذكر مع تطبيق الشريعة الإسلامية. لم تنتى الندوة عند هذا الحد، خصوصا خلال المداخلات الكثيرة جدا بملاسناتها وجدليتها وأفكارها وتنوعها الديني والسياسي، لكن الدكتور أندريه زكي أنهي أحاديث المنصة، ليؤكد أن الهدف من تنظيم تلك الندوة الخاصة عن الدستور هو المشاركة بإسهام إيجابي فيما يحدث بمصر حاليا، على اعتبار أن منتدي حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية ضمن مؤسسات المجتمع المدني ويؤمن بالتعددية، ومن ثم اطلاع اللجنة التأسيسية للدستور بمضمون الندوة، وأفكارها كمساهمة في طرح جميع التوجهات والآراء، ثم التأكيد على أن هناك توافقا كبيرا بين مسلمي ومسيحيي مصر على أهمية المادة الثانية في الدستور والمتعلقة بالشريعة الإسلامية، على ان يتم الاشارة إلى وضع غير المسلمين حتى تتسم تلك المادة بتوافق أكبر بشأنها.