نبىل زكى في الوقت الذي بدأت فيه قضية الدستور تشغل تفكير المواطنين والقوي السياسية، عقدت »الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية« ندوة في الإسكندرية موضوعها »الدستور الجديد وطموح المصريين«، تولي إدارتها الدكتور اندريه زكي. وقد استمعت في هذه الندوة إلي آراء مهمة لكل من المستشار محمود الخضيري رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب، ونائب رئيس محكمة النقض سابقا، والدكتورة نهي الزيني خبيرة النظم السياسية والقانون الدستوري، والدكتور هشام صادق استاذ القانون الدولي بجامعة الإسكندرية. وقد أجمع الثلاثة علي أن الموقف الصحيح هو أولوية الدستور علي الانتخابات البرلمانية.. حتي ان المستشار الخضيري أوضح انه لو كان الأمر بيده لكان قد وضع الدستور أولا وقبل كل شيء لأن الدستور هو الهيكل العظمي الذي يتشكل علي أساسه جسم الإنسان قبل أن يكتسي العظم باللحم، ولأن الدستور هو الذي يفصل لنا سلطات الدولة، وكيف يكون رئيس الجمهورية، وما إذا كان النظام برلمانيا أم رئاسيا.. وما هو وضع السلطة القضائية وبذلك »نبدأ عملنا بطريقة سليمة«.. والمؤسف في رأي المستشار الخضيري ان آخر مهمة نحن بصددها الآن هي وضع الدستور.. ولكن.. »لن نبكي علي اللبن المسكوب« علي حد تعبيره. الآن يبدأ الحديث عن الجمعية التأسيسية أو »لجنة المائة« التي تضع الدستور: كيف تتشكل؟ وهل يكون أعضاؤها من مجلسي الشعب والشوري أم من خارج المجلسين؟ وكيف يمكن التوصل إلي دستور توافقي؟ يري المستشار الخضيري ان يكون ثمانون عضوا في »لجنة المائة« من خارج المجلسين وعشرون من داخلهما، وأن تكون اللجنة ممثلة لكل أطياف الشعب ومعبرة عن كل الآراء والاتجاهات وأن يكون هناك تمثيل مقنع للأقباط وللمرأة.. وفي نظر المستشار ان هناك بعض العقبات حيث يوجد اتجاه في أوساط الرأي العام لإلغاء نسبة العمال والفلاحين بعد أن كان هناك لواءات جيش وشرطة يدخلون البرلمان علي انهم فلاحون. كما كان هناك رؤساء مجالس إدارات شركات يدخلون البرلمان علي أنهم »عمال«.. غير ان هناك كما يقول المستشار من يعارضون إلغاء هذه النسبة. وهناك اتجاه لإلغاء مجلس الشوري رغم وجود معارضة لإلغائه. ويقول المستشار ان المطلوب هو منح هذا المجلس سلطات.. إذا لم يتم إلغاؤه.. ويختتم المستشار الخضيري عرض وجهة نظره بالقول إن الطريق الوحيد لقطع الطريق علي أي تجريح في الدستور هو ضمان ان تمثل الجمعية التأسيسية جميع الاتجاهات حتي يكون لدينا دستور يحقق طموحاتنا وآمالنا ويعوضنا عن الفترات الماضية. الدكتورة نهي الزيني تعتبر الدستور وثيقة أو آلية لحل الصراعات في المجتمع، بمعني ان هذه الوثيقة بمثابة معاهدة للسلام الاجتماعي. صحيح اننا دولة مدنية منذ عهد »مينا« موحد القطرين، ومنذ أيام محمد علي، ومن أقدم الدول في العالم التي عرفت الدساتير، ولكننا نمر اليوم فيما تري الدكتورة الزيني بمرحلة لم نعرفها من قبل.. إذ تطفو الصراعات وتبدو مخيفة.. وهناك تخوين وتكفير في المجتمع وغياب للأمن. ولما كانت هذه الصراعات سواء عرقية أو دينية أو طبقية أو ايديولوجية تظهر علي السطح عقب الثورات والتغييرات الكبري، فإن الدكتورة الزيني تريد ان تنظر إلي الدستور علي انه أداة إدارة هذه الصراعات حتي تنكمش وتنحسر ويعود المجتمع إلي حالته الطبيعية.. ولاشك ان ما تقوله الدكتورة نهي الزيني جدير بالاعتبار، لأن البناء السياسي/ المؤسسي/ القانوني ضروري، كما يتضح من وجهة نظرها، لايجاد آلية سلمية لإدارة وحل الصراعات والتوافق المجتمعي وإعادة البناء والتعمير.. هنا ننتقل مع خبيرة النظم السياسية إلي أهم النقاط التي تطرحها في الندوة.. انها تحذر من الخلط أو الدمج بين الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وبين المجلس التشريعي »البرلمان«، ذلك ان وضع »السلطة التأسيسية لجنة الدستور والسلطة التشريعية في يد واحدة يشكل خطأ كبيرا«.. ذلك ان الجمعية التأسيسية أعلي من المجلس التشريعي. وكانت »خريطة الطريق« الرسمية قد تولت دمج المجلس التشريعي بالجمعية التأسيسية علي خلاف ما يجب ان يكون، مما تسبب في ارتباك شديد، فيما تري الدكتورة الزيني. ولكن ما هي أساليب وضع الدساتير؟ هل بطريقة الهيئة المنتخبة أو بطريقة الاستفتاء الدستوري؟ وتشير الدكتورة الزيني إلي مخاوف في حالة اسناد مهمة وضع الدستور إلي الجمعية التأسيسية .. من حدوث تدخلات سياسية من حزب الأكثرية لأنه سيكون صاحب الكلمة العليا في الاختيار أو في نفس عمل هذه الجمعية.. هنا يصل موضوع الندوة إلي قضية القضايا وذروة الأفكار الخصبة. تقول الدكتورة نهي الزيني انه لا يجوز ان يكون أي من أعضاء البرلمان عضوا في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. وهذا ليس مجرد رأي سياسي في نظرها، بل أكثر من ذلك، لأن التعديل الدستوري الغامض، في شهر مارس الماضي، ذكر ان مجلسي الشعب والشوري يختارا أعضاء الجمعية التأسيسية.. بينما ذكر الإعلان الدستوري ان المجلسين ينتخبان أعضاء الجمعية.. ومعلوم انه لا يجوز للشخص أن ينتخب نفسه!.. وعلي مجلسي الشعب والشوري وضع معايير لاختيار الجمعية التأسيسية، علي أن تكون لجنة الصياغة مختلفة تماما عن تشكيلة الجمعية ومكونة من شخصيات مشهود لها بالكفاءة والتخصص في القانون الدستوري. وأكثر النقاط التي أثارت جدلا في الندوة هي تلك التي أعلنت عندها الدكتورة الزيني ان كلمة الاستفتاء تعني طلب الفتوي، بل هي مستقاة من الفتوي، وأنت لا تستطيع أن تستفتي شخصا لم يصل إلي درجة من الوعي بحيث يحيط بإبعاد الموضوع الذي يُستفتي عليه. وتعتبر الدكتورة الزيني ان الاستفتاء هو أكثر آليات الديمقراطية فشلا، وأنه في استفتاء شهر مارس الماضي علي التعديلات الدستورية.. لم يكن التصويت علي التعديلات وإنما علي اتجاه سياسي، خاصة بعد تكفير من يصوتون ب »لا«.. والدليل علي ذلك في رأيها ان المادة 82 من الإعلان الدستوري التي تلقي معارضة صاخبة الآن من جانب الأكثرية البرلمانية.. كانت موجودة في الاستفتاء الذي قاموا بتعبئة المصريين للتصويت فيه بكلمة »نعم«، ويبدو انهم لم ينتبهوا إلي هذه الحقيقة وهم يتصايحون غاضبين ضد هذه المادة الآن!.. وهذه المادة لا تجيز الطعن في قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية.. ويتفق الدكتور هشام صادق مع الدكتورة نهي الزيني حول فكرة ان البرلمان بالتحديد لا يجب ان يضع الدستور حتي لا يكون خصما وحكما في نفس الوقت، وهذا أول درس يلقيه علي الطلاب في كلمة الحقوق.. فالأغلبيات متغيرة ومؤقتة والدستور باق لفترة طويلة، وبالتالي لابد ان يقوم علي التوافق. وفي رأيه ان نتائج شديدة الخطورة ترتبت علي عدم البدء بوضع الدستور، لأننا كان يجب ان نعرف منذ البداية قواعد اللعبة. وما يتمناه الدكتور هشام صادق هو ان يعبر الدستور الجديد عن مطالب وأهداف ثوار 52 يناير الذين أطلقوا خلال الثمانية عشر يوما حتي 11 فبراير شعارات عبقرية، كما ان المبادئ التي نادوا بها.. هي نفس مبادئ حقوق الإنسان ولا تختلف عن مبادئ الشرائع السماوية.. وما يهم الدكتور هشام صادق هو تمثيل أصحاب المصلحة في داخل الجمعية التأسيسية للدستور وكذلك حكماء المجتمع، وعلي كل فئة ان تختار مندوبيها إلي جانب التيارات الرئيسية الأربعة في مصر، وهي في رأيه الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية. خلال متابعتي لمناقشات الندوة تذكرت الموقف الحاسم الذي يتخذه الفقيه الدستوري ثروت بدوي وهو الرفض التام لقيام مجلسي الشعب والشوري باختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور. ندوة الإسكندرية كانت غنية بالأفكار والاجتهادات.. والابداعات التي تحاول بإخلاص التوصل إلي حلول تنفع الوطن والناس. وفي رأي كاتب هذه السطور انه بعد إحالة عدد من نصوص قانون مجلس الشعب إلي المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستوريتها، التي تتضمن عدم قصر الانتخاب الفردي علي المرشحين المستقلين غير المنتمين إلي أي حزب.. فإن مجرد ظهور احتمال ولو ضئيلا للغاية بصدور حكم بعدم دستورية قانون الانتخابات.. يفرض علينا ان تكون مهمة وضع الدستور الجديد.. خارج نطاق واختصاص مجلس الشعب حتي لو تطلب ذلك تعديلا في الإعلان الدستوري. كلمة السر: خطوات جديدة لوضع الدستور