يري بعض خبراء الجيولوجيا أن خريطة مصر المعدنية لم ترسم عمليا بعد ، وأن ثروة مصر المعدنية لا تزال دفينة في حاجة إلى العقول الوطنية الخالصة لاكتشافها واستغلالها الاستغلال الأمثل . فمصر الحديثة كانت سباقة في بعض خطوط التعدين ، فهي أولى الدول العربية علاقة بالبترول ومن أقدم كبرياتها في الفوسفات ، وكانت في وقت ما صاحبة ثالث أكبر منجم منجنيز في العالم. والآن نستطيع أن ننصف صحراءنا التي بررت وجودها، فبعد أن كانت مجرد شرنقة واسعة للحماية حول مصر أصبحت شرنقة اقتصادية يطمح إليها الطامعون . إن أسوأ ما تشترك فيه العقود الخمسة الماضية يظهر في عجز القيادات السياسية والفكرية عن تقديم مشروع حضاري مستقل لتحقيق النهضة في مصر . ومع كل الشعارات التي تم رفعها لم يستطع أحد منهم أن يتخلص من المفهوم الغربي للنهضة ، ولم يطرح أي منهم تصورا لما يريدونه لمصر يختلف عن أي جانب سياسي واقتصادي عن النموذج الغربي . ومازلنا نسير على نفس النهج الذي سار عليه من سبقونا، فلو تابع أحد منا ما نشر أو بث في الإذاعة والتليفزيون عبر نصف قرن لا يجد جديدا فالموضوعات والمشاكل كما هى ، ترتفع وتنخفض من فترة لأخرى حسب ما تريده الجهة الحاكمة . فأشد الأخطار التي تهدد مستقبل الاقتصاد المصري هو شيوع موقف معين من تحليل المشكلات الاقتصادية وطريقة حلها من خلال تحديد المشكلة الاقتصادية تحديدا فنيا ضيقا ويجردها من جوانبها الاجتماعية والسياسية ، فتعرف المشكلة الاقتصادية على أنها انخفاض متوسط الدخل أو ارتفاع معدل نمو السكان وتارة على أنه تضخم حجم الديون بالمقارنة بإجمالي الناتج القومي أو تضخم حجم خدمة الديون بالمقارنة بحجم الصادرات أو تضخم العجز في الميزانية أو ضآلة حجم الاستثمارات الأجنبية . ويكرر كل تيار سياسي نفس الخطأ الذي وقع فيه سلفه حيث يتصور أنه يستطيع تجميد التاريخ وقولبته أي أن التطور السياسي والاجتماعي سوف يتوقف عند حلول معينة أو أشكال مؤسسية بذاتها تم صياغتها في مرحلة سابقة ، فالتطور سنة الحياة والتطور يحمل معه مشاكل جديدة وتحديات مستحدثة تتطلب لمواجهتها أعمال العقل والخيال . مصر اليوم في حاجة إلى تجديد للفكر الوطني في مشتملاته الاجتماعية والاقتصادية وفي توجهاته الخارجية ، فهي مسئولية كبيرة لا يستطيع أن يتحملها شخص واحد ولا حتى تيار فكري واحد ، بل ستكون نتاج وخلاصة جهود عديدة يغلب عليها طابع الابتكار والإبداع ، تحافظ على جوهر التوجه السياسي بينما تقدم أفكارا وصياغات وتقترح سياسات تتفق والظروف الجديدة . وتجديد الفكر الوطني هو العاصم الذي يحول دون هيمنة تيارات الجموح والتعصب ودون استلاب عقول شبابنا في سراديب فكرية مظلمة . لقد درجنا طوال السنوات الخمسين الماضية على الخلط الفظيع بين الرجل العظيم وصاحب المنصب الكبير ، حيث نتعامل مع صاحب منصب كبير وكأنه رجل عظيم ويتوارى كثير من رجالنا العظام حقيقة في الظلام من فرط إهمالهم لمجرد أنهم لم تتح لهم الفرصة أو رفضوا أن يتولوا منصبا كبيرا . ومن ثم كان كل قرار يصدر عن المسئول الأول كان وثيقة مقدسة لا يجب الاقتراب منها أو أبداء تحفظات عليها . ومن ثم صار المسئول الأول هو الحاكم بأمره في عقد الاتفاقيات وتنفيذها وتفضيل هذا عن ذاك دون اعتبار لأية عوامل أخرى أو مستجدات تظهر من آن لآخر . ولعل قطاع البترول المصري يمثل أكبر مثال لهذا. فالعبرة في مجال البترول كسلعة ناضبة إنما هى الرصيد لا بالسحب أي بالاحتياطي لا بالإنتاج . وعملية استنزاف رصيدنا البترولي هى كوباء التجريف الذي دهم التربة المصرية فهذا تخريب للسطح وذلك تخريب للباطن . ففي ظل متغيرات السوق العالمية الأخيرة أصبح البترول مادة كالآثار العتيقة كلما تقادم بها العهد زادت قيمته وأن البترول في مكامنه قد غدا أكثر قيمة وجدوى وعائدا منه في سوقه ، فسعره غدا حين نبيعه ضعف سعره اليوم ، ولكن سعره بعد غد حين نشتريه سيكون أضعاف الأضعاف. فالمتوقع ألا يقل سعر البترول عن 120 دولارا للبرميل بحلول 2020، ومن ثم فإن تحول مصر إلى مستورد لكامل احتياجاتها من البترول والغاز، يمكن أن يلزمها بدفع فاتورة لا تقل عن 90 مليار دولار سنويا، قابلة للزيادة. ويتجاهل المسئولون دائما نصائح العلماء والخبراء المخلصين، ونلهث وراء الإعلام الغربي وتقارير المنظمات الدولية المغرضة. ولم نستفد من تجارب الآخرين الذين سبقونا . لقد استطاعت الولاياتالمتحدة أن تنظم صناعاتها البترولية في الثلاثينات من القرن الماضي لتفادي هذا الوضع بإنشاء هيئة لضبط الإنتاج وتحديده تبعا لسعر معين للحفاظ على هذه الثروة الطبيعية من إمكان تبديدها نتيجة لتقلبات السعر . وفي الخمسينات عندما دخل سوق البترول منتجون أساسيون آخرون غير الولاياتالمتحدة وضعت الحكومة الفيدرالية نظاما يحدد كمية الواردات من البترول كما يحدد كمية المنتج من الحقول المحلية . وقد بنيت هذه السياسة على أساس أنه عندما يزيد سعر البترول تسمح الحكومة بإنتاج كميات أكبر من مخزونها المحلي وعندما يقل السعر تمنع الحكومة الشركات من زيادة إنتاجها وتترك البترول مخزونا بداخل الأرض بعكس الحال عندنا فنزيد من الإنتاج لتعويض فارق السعر . ولقد رأت الولاياتالمتحدة أن رفع أسعار البترول سوف يعود عليها بالنفع الكثير فتعاونت مع شاه إيران الذي قاد عملية رفع الأسعار ،خاصة أن الولاياتالمتحدة لم تكن تعتمد على البترول المستورد إلا بنسبة قليلة . فرفع الأسعار سيزيد من أرباح شركات البترول العالمية الكبرى ، وثانيها هو أنه سيزيد من أرصدة البنوك الأمريكية التي كانت تتوقع أن يودع منتجو البترول فوائضهم في مصارفهم ، وثالثها أنه سيجعل الصناعة اليابانية والألمانية والفرنسية أكثر تكلفة وبالتالي أقل منافسة من المنتجات الأمريكية التي أصابها كساد كبير في أوائل السبعينات وخاصة أن اليابان وأوربا الغربية يعتمدون على البترول المستورد بالإضافة إلى أن الحكومة الأمريكية جمدت أسعار بترولها المحلي الذي كانت تستخدمه المصانع الأمريكية ، وبذلك أمكن للصناعة الأمريكية أن تنافس صناعات الدول الأخرى ، لذلك كان رد فعل أوربا وفرنسا على السيناريو الأمريكي بخلع الشاه بالثورة الخومينية . "وسيناريو الأزمة المالية الأخيرة هو شبيه بأزمة أسعار النفط في السبعينات ، حيث التهمت الأزمة أكثر من 700 مليار دولار من دول الخليج وحدها. وحرصت الولاياتالمتحدة والشركات النفطية التابعة لها، على ضرورة فصل السياسة عن النفط، بل وعن الاقتصاد عموما. وبالتالي يجب ألا تتضرر مصالح الدول إذا حصلت بينها إشكالات ونزاعات سياسية. . ومنذ البدايات الأولى للاكتشافات النفطية في المنطقة العربية ، حرصت الشركات النفطية أن تحدد هي أسعار النفط بنفسها ولنفسها، وكانت ظاهرة غريبة في التاريخ الاقتصادي أن يحدد المشتري سعر البضاعة التي يريد شراءها "أو أن يكون البائع هو المشتري في الوقت ذاته . وفي كل مرة نحاول فيها إصلاح ما تم إفساده يظهر نمط جديد يدمر أي محاولة للإصلاح . اليوم نحاول أن نعظم من شأن الغاز ليحل مشاكلنا الاقتصادية والحد من واردات الوقود المختلفة ، فالغازات الطبيعية يمكن أن تحل حدي المعادلة الصعبة على السواء ، فمن ناحية توفر علينا استيراد البوتاجاز وبعض المشتقات البترولية الأخرى فتصحح من ميزان مدفوعاتنا المختل ، ومن ناحية أخرى توفر كميات كبيرة من المازوت يمكن أن نصدرها بالعملة الصعبة أو أن تحد من استنزافنا الخطر لرصيدنا المحدود حفاظا عليه للمستقبل . ومن ثم يجري الآن الإعداد لسيناريو جديد في الغرب لتطبيقه علينا مثل ضرورة إيقاف إشعال الغاز وبدء مشاريع إضفاء الصفة النقدية عليه في البلدان التي تهدر فيها الموارد وضرورة الحوار القائم علي الثقة والشفافية بين منتجي الغاز ومستهلكيه لكي يتسنى تحديد سعر عادل للغاز الطبيعي. وعندما يفكر المرء فى الطريقة التي تم بها بيع البترول المصري ، تعتريه الحيرة وينتابه القلق على مصير البترول في المدى البعيد . والمشكلة التي تواجهنا وتواجه اى مهتم بشئون تجارة البترول في مصر تتمثل في المركزية الشديدة لدائرة صناعة القرار ثم هذه السرية الغريبة والتي لا نجد أي مبرر لها في إجراءات التعامل وإبرام الصفقات . وليس من الصالح العام ترك هذه العمليات داخل دائرة محدودة دون مراجعة دقيقة من الرأي العام . فقرار البيع ينحصر بين شخصين أو ثلاثة على أكثر تقدير ، ومن ثم فالقرار يخضع للتقدير الشخصي بالإضافة لعدم وجود معايير محددة تحكم طريقة اتخاذه. وهناك من العملاء يحصلون على الكميات التي يرغبونها في الأوقات المناسبة وبالذات عندما يكون اتجاه السوق في صالحهم ، وهؤلاء تلبي طلباتهم فورا بالتليفون من جنيف أو لندن. وكانت الهيئة توزع قائمة عملائها على عدة مجموعات كاستراتيجية عامة فتوجد إسرائيل بشركاتها الثلاث دبليك وسونك وجاز أويل ثم مجموعة الشركات البترولية العملاقة شل وأكسون . . ثم مجموعة معامل التكرير ثم مجموعة الشركات الحكومية لبعض الدول ثم مجموعة الشركات الكبيرة المتخصصة في تجارة البترول وأخيرا مجموعة الشركات الصغيرة التي تتعامل في بيع وشراء البترول، وهى تتعامل بقواعد السمسرة والوساطة عندما تتعامل مع الهيئة فتتقدم بطلبات رفع الشحنات التي تردها عندما تسنح فرص سريعة لتحقيق ربح عاجل . وهذه النوعية خطرة لأن أهدافها قصيرة الأجل ومحدودة ويهمها سرعة تدوير رأسمالها وعدم تحمل أي مخاطرة تحت أي ظرف ، كما أنها لا تستطيع الاستمرار مع الهيئة عندما يكون السوق مترديا . وكان لهذه النوعية من الشركات مكانة كبيرة لدى هيئة البترول . وقد شابه أداء الهيئة قصور شديد تجاه التعامل مع الكفاءات حيث كانت تستبعدهم كلما حانت الفرصة. ولقد درج المسئولون على التخلص من أي جهة لها رأي في تحديد المواقع الصالحة وغير الصالحة للتنقيب، فبادرت بجرة قلم بشطب اسم ثاني أقدم هيئة للمساحة الجيولوجية في العالم بعد الهيئة البريطانية وألحقتها لتبعيتها لتتحكم فيها وقد حذرنا وقتها من خطورة هذا القرار. كذلك لم يستجب المسئولون لتحذيرنا بعدم التعاقد مع شركة بريتش بتروليم لأنها معرضة للإفلاس بسبب حادث التسرب النفطي في خليج المكسيك ، فكان التعاقد مع مصر بمثابة عملية إنقاذ للشركة التي ضحكت علينا. وجرت العادة في عقود تصدير الغاز منذ أكثر من ثلاثة عقود أن تتضمن نصا يلزم المشترى بحد أدنى لسعر الغاز، كما يجيز تصعيده عبر الزمن بمعدلات معينة أو بإعادة التفاوض عليه متى طرأت تغيرات تجيز هذا التفاوض. لكن عقود تصدير الغاز المصري لم تتضمن نصا يجيز التصعيد. ومن ثم ظل سعر الغاز مجمدا، كما هو الحال فى حالة إسرائيل إلى أن أجبر الضغط الجماهيري على الحكومة للدخول فى تفاوض بقصد رفع السعر. وما زال السعر يعتبر من الأسرار، التى يرفض قطاع البترول بلا مبرر الكشف عنه لمقارنته بالأسعار العالمية. والمبادئ القانونية المستقرة تؤكد أن تغير الظروف التي تحكم العقود الطويلة الأجل يستلزم إعادة التفاوض لإعادة توازن العقد إلى ما كان عليه وقت التوقيع. وعندما حانت لحظة التعديل جاء لمصلحة الطرف الآخر حيث أدخل نصا مؤداه أنه إذا حدث تغيير فى التشريعات أو اللوائح القائمة والمطبقة على البترول مما يكون له تأثير مهم فى غير صالح المقاول ، يتفاوض الأطراف لإعادة التوازن الاقتصادي لاتفاق التعديل ، الذي كان موجودا فى تاريخ السريان . وبالمقابل لا يتضمن التعديل نصا مماثلا يتيح للجانب الوطني المطالبة بإعادة التوازن إلى العقد، إذا طرأت تغيرات جوهرية. وتحصل الشركات الأجنبية في مصر على مميزات كثيرة غير مستحقة لها ، فالشريك الأجنبي لا يتحمل الإتاوة التي هى حق للدولة مقابل نضوب البترول ، وضرائب الدخل وتتحملهما الهيئة العامة للبترول نيابة عنه. كما يعفى أيضا من الجمارك على جميع وارداته من الخارج، وهى ما تمثل الجانب الأكبر من النفقات. فهل آن الأوان أن نعيد رسم خريطتنا المعدنية وأن نضخ دماء جديدة مختارة على أسس الكفاءة العلمية والمهارة الشخصية لدائرة صنع القرار في مختلف قطاعات الدولة .