مُنذ اندلاع العدوان على غزة في 7 أكتوبر 2023، ورغم التنسيق الأمنى القوى بين أمريكا وإسرائيل، إلا أن الخلافات السياسية بينهما، كانت تجد طريقها إلى الإعلام فى بعض الأحيان، ورغم أن هذه الخلافات لا تزال مُستمرة وقائمة مُنذ إدارة الرئيس السابق جو بايدن، إلا أن إسرائيل كانت طوال الوقت قادرة على ضبطها والتحكم فى توجيهها، غير أن الأمر مُختلف مع إدارة ترامب، هذه المرة، فالخلاف بين الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ورئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يبدو أكثر سخونة. ◄ قصف ميناء الشهيد رجائي يصب في مصلحة إسرائيل ◄ فكرة «اليوم التالي» لحرب غزة لم تصل للذهن الأمريكي في ظل الإدارة السابقة لبايدن، كان الخلاف مع إسرائيل ما إن يظهر أو يتسرب لوسائل الإعلام وغالبا من باب الاستهلاك المحلى قبل موسم الانتخابات الرئاسية - حتى يتم استيعابه سريعًا على لسان أعضاء من الإدارة الأمريكية، يلقى هؤلاء تصريحات توازن ما تسرب من انتقاد لإسرائيل أو سب لنتنياهو شخصيا، فيؤكدون على متانة الحلف والعلاقات بين الجانبين، أى أن المؤسسات الأمريكية كانت سرعان ما تنتفض لصالح الإسرائيليين. لكن هذه المرة الأمر مُختلف، فالخلاف مع إسرائيل لا يصدر إلا من ترامب شخصيًا، قبل أن يتبعه انتقادات ارتدادية من كامل أعضاء إدارته لتل أبيب ونتنياهو، حتى يظن المراقب أن أمريكا بالكامل قد تمردت على ميثاقها الغليظ مع إسرائيل، ولمَ لا؟! فترامب نفسه يتجاوز سلطة المؤسسات فى إدارته لشئون البلاد ويعيد رسم تحالفاتها القريبة والبعيدة، والدليل ما يحدث مع أوروبا. ما يهم فى كل ذلك هو التصريحات الواردة من البيت الأبيض، ومن قبلها القرارات والمواقف الأمريكية فى عدة ملفات تتعلق بغزة واليمن وإيران والمُحبطة بشدة لإسرائيل، والسؤال الآن لماذا حدث كل ذلك؟ فالخلاف بين الرجلين كان معروفا، لكن لماذا الحدة الآن؟! ◄ ابتزاز ترامب للإجابة عن هذا السؤال يجب الرجوع لمشهدين، الأول عندما قصفت إسرائيل مبنى تابعا للقنصلية الإيرانية فى دمشق فى إبريل 2024، واستتبعها رد إيرانى على إسرائيل ثم تعهد إسرائيلي بالرد على إيران، مما أوقد دائرة جهنمية من التصعيد المحتمل، وهو ما تبين لاحقا أنه تصعيد صممته إسرائيل وخططت له بدقة لابتزاز إدارة الرئيس جو بايدن وانتزاع موافقتها لإسرائيل على دخول رفح. وكان دخول رفح التى كان يقطنها آنذاك نحو مليون ونصف المليون نازح فى غزة محل رفض شديد من العالم أجمع ومن أمريكا التى هددت فيها كامالا هاريس، نائبة بايدن، إسرائيل بشكل مباشر وألمحت لوجود كل الخيارات قائمة بخصوص عقاب تل أبيب، لكن فى وقت لاحق، وأمام تهديدات التصعيد الإسرائيلى على الجبهة الإيرانية، وافقت إدارة بايدن على دخول الجيش الإسرائيلى رفح. وكان هذا ما كشفته صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، إذ ذكرت أن إدارة بايدن أعطت الضوء الأخضر بدخول رفح مقابل وقف التصعيد بين إسرائيل وإيران، والذى كان سيستدرج الولاياتالمتحدة آنذاك الى دائرة التوتر. أما المشهد الآخر فهو الانفجار الذى وقع فى ميناء الشهيد رجائى بمنطقة بندر عباس الإيرانية قبل نحو أسبوعين فيما كانت طهرانوواشنطن تجريان إحدى جولات تفاوضهما الثنائى، إسرائيل بالطبع لا تريد هذا التفاوض أن يستمر ولا تريد أن تقرر واشنطن انتهاج مسار التفاوض مع إيران، ولا حتى العقوبات، بل تريد، فى غمرة حروبها الحالية فى المنطقة، أن تقوم بقصف المنشآت النووية الإيرانية لتقضى تماما على هذا الحلم الايرانى. ولا سبيل لها لذلك إلا بدعم وتعاون من الولاياتالمتحدة، ومن ثم فالتفاوض الأمريكى الإيرانى، من الناحية العملية، سيخرج واشنطن من المعادلة والحسابات الإسرائيلية لهذا الأمر. ورغم عدم وجود اعتراف أو دليل مادى، إلا أن قصف الميناء الإيرانى كان يصب غالبا فى مصلحة إسرائيل، وقد استعرضت «آخر ساعة» هذا الموضوع بالشرح والتحليل فى عدد سابق. وبعد عدة أيام من قصف الميناء، قصف الحوثيون الموالون لإيران فى اليمن منطقة مطار بن جوريون، وباستبعاد الأسباب المعلنة بغرض الاستهلاك الإعلامى وبالخوض مباشرة فى التطورات من الناحية التحليلية وربط تزامنها مع التصعيد السياسى، فإن ما فعله الحوثيون لا يمكن فصله عن كونه ردا إيرانيا غير مباشر على استهداف إسرائيل لمينائها، ولم تتأخر إسرائيل فى الإعلان عن عزمها الرد على كل من إيران واليمن، وبذلك فقد أشعل نتنياهو جبهة من القصف المتبادل بين إسرائيل وإيران، استدرج لها طهران من ناحية بينما كان يكثف محاولاته التأثير على الإدارة الأمريكية، عبر مستشار الأمن القومى مايك والتز الذى أقاله ترامب لاحقا لنفس السبب، لإقناع الجانب الأمريكى بالتدخل عسكريا لصالح إسرائيل. ◄ حرب كبرى ما حدث أغضب ترامب لعدة أسباب، أولًا أن إسرائيل أشعلت جبهة ربما إذا استمرت كانت ستنفلت لاحقا لحرب كبرى فى المنطقة تطول القواعد الأمريكية، وثانيا أن إسرائيل تحاول وأد جهود سياسية ودبلوماسية بذل ترامب لأجلها الكثير، فقد تخلى بشكل شخصى عن تشدده السابق حيال إيران لدرجة أنه عرض لقاء مرشدها، كما أن ترامب لديه أسباب قوية للتوصل لاتفاق مع إيران، بينها تجنيب إدارته الإحراج جراء إعلان إيران دخولها المحتمل للنادى النووى، وكذلك تحييد «الدور السلبى» لإيران فى المنطقة، وذلك من أجل إتمام مشروعات من التعاون الاقتصادى والتجارى وبسط الساحة لمزيد من الهدوء والسلام الذى تحتاجه أمريكا فى المنطقة. أما السبب الثالث فهو مساعٍ غير أخلاقية لنتنياهو لاختراق الإدارة الأمريكية عبر تواصل ثنائى مع والتز دون علم ترامب. قرر ترامب بشكل واضح معاقبة نتنياهو، وبغض النظر عما سيسفر الأمر نهائيا عنه، فإن ترامب اتخذ عدة قرارات، أولا استبعاد العمل العسكرى ضد إيران، ثانيا الاتفاق بشكل منفرد مع الحوثيين بما يترك إسرائيل وحدها فعليا فى مواجهتهم، ثالثا تقديم رؤى حتى دون تنسيقها بشكل كامل وتام، مُخالفة للنوايا الإسرائيلية بشأن غزة، من حيث التسريبات حول خطة لهدنة تنتهى بوقف إطلاق نار كامل، وكلها أمور تغضب الإسرائيليين. ◄ اقرأ أيضًا | ترامب: محمد بن زايد صديق عزيز.. ونتطلع لاستقباله في واشنطن ◄ حرب غزة حتى كتابة هذه السطور، لم يكن ترامب قد استقل الطائرة للوصول للمنطقة فى جولته، ولم يكن أيضا قد أعلن عن رؤية سياسية لحرب غزة بعد، فترامب وإن قصد العداء الشخصى مع نتنياهو، إلا أن ذلك لا يعنى امتلاكه لرؤية سياسية كاملة فيما يتعلق بحرب غزة، وحتى الآن، وأدت واشنطن لإسرائيل نيات عربات جدعون، ونيات خطط توزيع المُساعدات بشكل يُهدد حياة الفلسطينيين، واكتفت بطرح رؤى مُتناقضة مع كل ذلك، أما فكرة «اليوم التالى» فهى لم تكتمل أو تنضج بعد فى الذهن الأمريكى، ومن ثم فإنه قد لا يأتى التوقع المتفائل للغاية من موقف ترامب تجاه الحرب، فالرجل نفسه لا يعلم ماذا يمكن فعله. الأكيد هو ما قاله محللون بأن استمرار حرب غزة واستمرار العدوان عليها يجعل سيناريوهات الانفلات واردة أكثر من سيناريوهات السيطرة، ومادامت حكومة نتنياهو فى السلطة ممارسة لأبشع صور الإرهاب فى غزة ضد المدنيين العزل، بقيت احتمالات تفجر الأوضاع فى المنطقة مجددًا وهو عكس رؤية ترامب تمامًا، فترامب وإن لم يكن لديه تصور كامل لحل الأزمة فى غزة، إذ يعرف ما لا يريد دون أن يعرف ما يريد، فهو فى النهاية يريد الاستقرار لهذه المنطقة، ويريد تحييد الخطر الإيرانى، وفتح باب لاستثمارات بالمليارات هناك للشركات الأمريكية والسماح لكميات النفط الإيرانى بالنفاذ للسوق العالمى الأوسع، بدلا من الاقتصار على البيع للصين، بما يصب فى صالح اقتصاد بلاده بشكل عام. ومن ثم، فرؤية ترامب للمنطقة باتت تتعارض بوضوح مع رؤية نتنياهو، وإن لم يكن لدى واشنطن الآن الرؤية للحل، فقد تبدأ فى البحث عن حلول للأزمة، فلا رفاهية لها بعد الآن لأن تتجاهلها.