يتكشف مع الوقت حجم الخلاف السياسي بين إسرائيل والولاياتالمتحدة والمستمر منذ إدارة الرئيس السابق جو بايدن بسبب حرب غزة. هذا الخلاف يتزايد بالفعل رغم الدعم العلني أمام وسائل الإعلام والدعم العسكري الثابت، الذي يجعل من الولاياتالمتحدة شريكا رغما عنها فى حرب الإبادة التي بدأت فى القطاع منذ 7 أكتوبر 2023. وقبل أيام، كشف تقرير لموقع أكسيوس الأمريكي أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تواصلت بالفعل مؤخرا مع قادة من حركة حماس؛ لتأمين الإفراج عن الأمريكيين المحتجزين بين الأسرى الإسرائيليين في القطاع. ◄ «واشنطن بوست»: المحادثات كشفتها إسرائيل لإحراج أمريكا ◄ قرارات القمة العربية دليل على الدور المصري التاريخي وواجه الإعلاميون الرئيس ترامب بالأسئلة حول تلك المحادثات السرية وذلك خلال استضافته لأسرى مفرج عنهم في البيت الأبيض. ورد ترامب مدافعا عن هذه الخطوة غير المسبوقة فى الحديث مع حماس قائلا إنه لم يفعل شيئا خاطئا، فهو لا يقدم لهم مالا أو دعما مثلا، كما أن هدف المحادثات كان تسهيل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة، وليس الأمريكيين فقط. لكن ما حدث يكشف عن عدة أمور هامة. أولها أن ما يحدث أمام شاشات الإعلام لا يعكس بالضرورة حقيقة ما يحدث فى الواقع، فترامب خاض المحادثات مع حماس سرا بينما كان يهددها فى العلن بأبواب الجحيم التي سيفتحها على القطاع. ◄ قوة ترامب إن دل ذلك على شيء، فهو يدل على أن ترامب يرى قوته الأساسية فى عقد صفقات دون شن حروب، لاسيما مع أعداء بلاده.. فترامب، خلال فترته الأولى 2016- 2020، عقد صفقة مع طالبان لتأمين انسحاب جيشه من أفغانستان (وهي مهمة أكملها بايدن على نحو فاضح).. كما أن ترامب خاطب زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، وزار بلاده عبر تخطيه منطقة الحدود، من أجل تأمين خطاب سياسي غير تصعيدي خلال مدة رئاسته الأولى، وحتى ينظر له على أنه «صانع معجزات سياسية».. ورغم عدم حدوث تغيير كبير فى سياسة البلدين، إلا أن الخطاب السياسي الصادر من البيت الأبيض بشأن كوريا الشمالية كان خطابا باعثا على الاطمئنان للأمريكيين، فألد أعداء البلاد، وهى دولة كوريا الشمالية (النووية)، قد حيد الرئيس شرها. أما أحدث الأمثلة فهو تواصله مع روسيا، ومفاوضات الرياض التي أجريت فى فبراير الماضي، وقد كان طوال حملته الانتخابية يتباهى بأن موسكو «لم تجرؤ» خلال إدارته على ضم أى أراضٍ جديدة لها. ويرتبط ذلك بتصوير ترامب لنفسه على أنه قادر على تحقيق أهداف بلاده وحماية مصالحها عبر التفاوض المباشر، حتى مع الأعداء، مع تعزيز قدرات الردع العسكري فى الوقت نفسه دون استخدام الجيش أو شن حروب. وكان هذا ما قاله نصا خلال خطاب فوزه فى الانتخابات فى نوفمبر الماضي. ◄ الخلاف العميق أما الملاحظة الثانية على هذه المحادثات بين واشنطن وحماس فهى أنها كشفت بالفعل عن خلاف عميق بين واشنطن وتل أبيب. فقد نقلت صحيفة واشنطن بوست عن مصدر سياسي مطلع أن المحادثات «السرية» قد كشفت عنها إسرائيل للإعلام لإحراج الإدارة الأمريكية وإفشال مفاوضاتها تلك. وأضاف المصدر أن المفاوضات جاءت لأن الإسرائيليين يرفضون اعتبار أى أهمية للأسرى المحتجزين لدى حماس ممن يحملون الجنسية الأمريكية. ولدى سؤالها، أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض فى وقت لاحق أنه قد تم إطلاع إسرائيل على تلك المفاوضات. والسؤال هو لماذا قررت إسرائيل الكشف الآن عن هذه المفاوضات؟.. أما التوقع الأقرب فهو في الضغط على الإدارة الأمريكية التي يزداد أمل عائلات الأسرى فيها.. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يريد أن يقول لعائلات الأسرى الذين يزيدون الضغط عليه، مراهنين على الدعم الأمريكي لموقفهم، إن إدارة ترامب تتخلى عنهم وتدير ظهرها لهم وتركز فقط على الأسرى الحاملين للجنسية الأمريكية. فلا يجب الرهان على ترامب لأنه فور حصوله على أسراه والتقاط الصور التذكارية معهم فى واشنطن (كما فعل مع أسراه لدى روسيا المفرج عنهم) سينتهي اهتمامه بالأمر برمته. وقد تزامن كشف إسرائيل عن هذه المحادثات فى الوقت الذي كان فيه ترامب يستعد للقاء 8 من الأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم فى مكتبه البيضاوى. ◄ الموقف المشرف وهذا الكشف الإسرائيلي يوضح بالفعل حجم الخلاف السياسي مع إدارة ترامب.. ويثبت أن التصريحات الداعمة التى تلقاها نتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض الشهر الماضي كانت تخفي موقفا متعنتا لنتنياهو ويمينه المنفلت والمتطرف من أعضاء حكومته، ورافضا لرغبتهم الشديدة فى استئناف الحرب. وقد ظهرت بوادر هذا الخلاف حتى من قبل لقاء الرجلين بساعات حين نقل موقع أكسيوس عن مصدر مقرب من ترامب إن الرئيس الأمريكي «لا يحب بيبي (نتنياهو) أو يثق فيه». وحاول نتنياهو فى وقت لاحق التغطية على رفض ترامب لاستئناف الحرب وإجباره للعودة لطاولة المفاوضات بتصريحات تشيد بدعم الرئيس الأمريكي لإسرائيل وأنه أقرب الرؤساء الأمريكيين لتل أبيب.. إلخ. حتى هذه التصريحات التى أطلقها ترامب خلال اللقاء بخصوص «ضم غزة» و«ريفييرا الشرق الأوسط».. إلخ، قد تراجع عنها بالفعل فى الأسابيع التالية أمام موقف مصري وأردني ثابت ومشرف، مما زاد من وطأة الخلاف مع تل أبيب، ودفع اليمين الإسرائيلي لمحاولة خطف الأنظار عن خيبة أمله تلك عبر إثارة قضايا سوريا ولبنان وحتى التواجد العسكري المصري في سيناء. ◄ استئناف الحرب مع التسليم بالدعم العسكري الأمريكي الثابت لإسرائيل، إلا أن الإرادة السياسية لدى ترامب أساسية لكي تستطيع تل أبيب أن تستخدم ذلك الدعم العسكري، ترامب لا يريد استئناف الحرب فى القطاع رغم تلويحه بذلك عدة مرات. يمكن تفسير ذلك بأن استئناف الحرب لن يؤدي إلى أى مكاسب سياسية. فإسرائيل لم تدخر جهدا فى عدوانها ومع ذلك لم تستطع تحقيق شيء، وقد كشفت الهدنة الفشل السياسي والعسكري لإسرائيل فى القطاع من حيث إخفاقها فى تحقيق الأهداف التى وضعتها هى للحرب. وبالتالى، بالنسبة لترامب، لن تسفر الحرب عن أى نتائج ملموسة، بل تخاطر بحياة الأسرى المحتجزين، بينما الإفراج عنهم أولوية لدى الرئيس الأمريكي بالفعل بوصفه «رجل المعجزات». كما أن استئناف الحرب بالنسبة لترامب يعنى تزايد احتمالات الانفلات على احتمالات السيطرة. فالحرب إن استؤنفت لن يكون هدفها التالى إلا تحقيق عملية التهجير وهو ما ينذر بمواجهة مع مصر لا هوادة فيها.. وبالطبع لا يريد ذلك ترامب.. فالعلاقات المصرية الأمريكية استراتيجية وتحقق منفعة هامة للجانبين وقد يحذر الأمريكيون من مخاطر انهيار هذه العلاقة بسبب طموحات اليمين المنفلت فى إسرائيل والذي يريد فرض إرادته فى المنطقة على الجميع! ◄ الدعم العسكري وبالعودة للحديث عن الإرادة السياسية الأمريكية الملزمة - رغم الدعم العسكري - لإسرائيل، تجدر الإشارة إلى 15 شهرا من الإبادة المستمرة دون هوادة لقطاع غزة وأهله فى ظل ضعف تام للإرادة السياسية من واشنطن فى كبح جماح الحليف الإسرائيلي. فلا شك أن الحرب لم تكن تريدها إدارة بايدن السابقة، لكن تلك الإدارة كانت أضعف من فرض رؤيتها، مكبلة بمخاوف تتعلق بخسارة الانتخابات أمام «ترامب نصير الإسرائيليين» وقد خسرتها بالفعل.. لكن ترامب جاء وكشف بعدها عن حب جارف لإسرائيل لكن كراهية ورفض لحكومة نتنياهو اليمينية.. وهو ما يفسر استمرار الخلاف السياسي بين واشنطن وتل أبيب بشأن الحرب. وبعد تسريب إسرائيل لأنباء محادثات واشنطن وحماس، أظهر تصريح المبعوث الرئاسي ستيفن ويتكوف مظهرا آخر من هذا الخلاف بتأييده خطة مصر لليوم التالى فى غزة والتي تم إقرارها بإجماع فى القمة العربية الطارئة التى عقدت بمصر فى الرابع من مارس الماضي. وهي الخطة التى رفضتها إسرائيل. ولا شك أن تأييد واشنطن ولو كان ظاهريا ومن حيث المبدأ لهذه الخطة قد وضع غصة فى حلق نتنياهو ويمينه وسط تقارير تفيد عن زيارة لوزير المالية الإسرائيلي بتسئيل سموتريتش لواشنطن لعقد محادثات. ◄ نقطة الاتفاق أمام الموقف الأمريكي الرسمي المؤيد لتجميد المرحلة الثانية من المفاوضات لما بعد شهر رمضان وفترة الأعياد، فيرجع لإعطاء فرصة للوسطاء ولدول المنطقة بإقناع حماس بنزع سلاحها والتخلى تماما عن الدور السياسي والعسكري فى القطاع فى الفترة القادمة.. وهو الأمر الوحيد الذي يبدو أنه محل اتفاق بين كل من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي فى شأن هذه الحرب، لكن استئناف الحرب لا فرص له مع واشنطن. يتجلى مع الوقت بوضوح الدور المصري المشرف والتاريخي فى التصدي بقوة للنكبة الثانية. ولم تكن القرارات التى تبنتها القمة العربية الأخيرة فى القاهرة إلا مزيدا من الأدلة على ذلك.. وفى التحليل الأخير يمكن القول إن بعض الأزمات تتطلب الانتظار لوقت ما حتى يمكن الحكم على وتحديد تلك التى كان الشرف عنوانًا لها.