الصبر منزلة من منازل الصادقين السائرين فى طريق محبة الله، ولأن الصبر طريقٌ موحشةٌ محفوفة بالمكاره لم يسلكها منفردًا إلا أولو العزم من الرسل كأيوب ﴿إنّا وجدناه صابرًا نعم العبد﴾ص:44، ويعقوب الذي وُصِف صبرُه بأنه (صبر جميل)، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي أوصاه ربه: ﴿فاصبر صبرًا جميلا﴾المعارج:5، ولا يطيق السير فى تلك الطريق الموحشة إلا من سار على نهج أولي العزم: ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾الأحقاف:35، وتلك منزلة لا يستطيعها إلا من وفقه الله إليها، وأعانه على تحمّل مشاقّها: ﴿وما صبرك إلا بالله﴾النحل:127. ولأن السائر فى طريق الصبر منفردًا، وليس له نصيب من صبر أولي العزم من الرسل، قد يجزع ولا يستطيع على ما أصابه صبرًا- كان أغلب خطاب القرآن لجماعة المؤمنين الصابرين بصيغة الجمع، فهم فى مسيرهم يصبرون ويصابرون ويصطبرون ويتواصَون بالصبر، فإذا مالَ أحدهم عن الطريق ردُّوه إلى الصبر واستنقذوه من هوة الجزع. والصابرون من جهة احتمالِهم المكروهَ درجاتٌ؛ أدناهم (المتصَبِّر) الذي يتكلف الصبر فيحتمل المصيبة مع وقوع أثر المحنة فى قلبه، وقد تغلبه نفسه فيجزع، فترُدُّه جماعةُ الصابرين إلى سواء السبيل، ومنهم (الصابر) الذي يكون منه الصبر على أي جهة كانت، ومنهم (الصبّار) الذي كثر منه الصبر وعُرِف به، ومنهم (المصطبر) الممتلئ صبرًا، ومنهم (المُصابِر) الصابر في نفسه الداعي غيرَه إلى الصبر، أو الصابر فى نفسه الذي يدفع عدوه فيكون أصبر منه حينَ البأس. والصابرون من جهة مُصابهم أيضًا درجات، أعلاهم درجةً من اجتمعت عليهم المصائب وتوالت عليهم المكاره فصبروا، فمدحهم الله فى كتابه بقوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (177)﴾البقرة:177 لقد اجتمعت على هؤلاء القوم: (البأساء) أي البؤس والفقر والفاقة والجوع، و(الضَّرَّاء) أي السّقم والمرض. وكان ذلك (حينَ البأس) أي وقت القتال ومدافعة الأعداء. إن مرَض هؤلاء القوم وفقرهم ومسغبتهم ليست أمرًا عارضًا، ولو كان ذلك عرَضًا يصيبهم بعض الوقت ثم يزول عن قريب لما استحقوا درجة الصابرين الصادقين المتقين، إنما استحقوا تلك المنزلة لأنهم صاروا (فى) الفاقة والمرض، فكأنّ الفقر والمرضَ صارا ظرفًا لهؤلاء القوم، وهم بداخل ذلك المرض والجوع الذي يأكل أجسادهم ويتغذى على عظامهم، ويلازمهم فلا يكاد يبرحهم. وإذا كان ذلك كله (حينَ البأس)، فقد اجتمع عليهم- إلى المرض والجوع- ارتقاب الموت وخوف فَقْد النفس والأهل، فاستحق هؤلاء القوم البشرى من الله ﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155)﴾البقرة:155. ذلك كله إذا تأوَّلنا الواو على إنها تفيد مطلق الجمع، فإذا تأوّلناها بإفادة معنى التقسيم والتنويع؛ فقد بدأ القرآن بأدنى درجات الصبر (الصبر على الجوع)، ثم علا درجة إلى (الصبر على المرض) وهو ضربٌ من الصبر يحوي الدرجتين معًا؛ إذ المريض يعافُ الطعام، فهو صابر على المرض والجوع معًا، ثم يأتي فى أعلى درجات الصبر (الصبر على لقاء العدو فى الحرب)، والحرب أمُّ المكاره، والمحارب مترقّبٌ لعدوه يخاف فَقْد النفس وهلاك الأهل، فيعاف الطعام والنوم، فصبره صبر على كل تلك المكاره. والمؤمن إنما يصبر بالله ولله وفى الله ومع الله، لا كالكافر والمنافق الذي يصبر عن الله. وإذا شكا المؤمن الصابر فإنه لا يشكو اللهَ بل يشكو إلى الله، متخذًا يعقوب عليه السلام إمامه فى الشكوى حين قال: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾يوسف:86.