جاء لقاء الرئيس الأمريكى مع نظيره التركى على هامش قمة العشرين، فى مدينة هانغتشو شرق الصين، ليحظى بأهمية خاصة كونه الأول بعد محاولة الانقلاب الفاشلة فى منتصف يوليو الماضي، فضلا عن تزامنه مع عملية «درع الفرات» التى شنتها فصائل للمعارضة السورية بمعاونة من آليات الجيش التركى وغطاء جوى للتحالف الدولى شمال سوريا بهدف إبعاد تنظيم «داعش» والوحدات الكردية عن المنطقة الحدودية مع سوريا. وبرغم أن عملية «درع الفرات» قد تؤسس لمرحلة جديدة فى العلاقة بين أنقرةوواشنطن فى سوريا، وتعطى دفعة جديدة لبرامج التعاون مع واشنطن المتشككة فى جدوى التعاون مع فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة، إلا أن ثمة توترا قائما بين البلدين. والأرجح أن ثمة أسبابا عدة لتراجع العلاقة، أولها: تصاعد الانتقادات الأمريكية لملف الحريات وحقوق الإنسان والقمع الممنهج فى تركيا منذ أحداث جيزى بارك، فضلا عن إدانة تقرير الخارجية الأمريكية الصادر فى إبريل الماضي، نظام الحكم بقمع الصحافة وحرية التعبير وملاحقة الصحفيين والمواطنين العاديين واستخدام العنف المفرط ضد الأكراد. وزاد القلق مع توجه أنقرة فى عام 2013 إلى مفاوضات مع شركة “سبميك” الصينية لاستيراد نظام دفاع “ F D – 200” الصاروخي، وهو ما آثار امتعاض واشنطن، التى تفرض عقوبات على هذه الشركة، لخرقها قانون حظر انتشار الأسلحة بالنسبة لإيران وكوريا الشمالية وسوريا. ويرتبط السبب الثانى بالمواقف الضعيفة والمخزية لإدارة أوباما تجاه الانقلاب التركى الفاشل، ويبدو أن زيارة جون بايدن لأنقرة ومن قبلها جون دانفورد رئيس الأركان الأمريكى فى أغسطس الماضى والتوصيف الأول للانقلاب “بالعمل الجبان” لم تفلح فى تسكين أوجاع الأزمة مع تركيا، خصوصا أن السفارة الأمريكية فى أنقرة فور وقوع الانقلاب أصدرت بيانا رسمياً وصف ما يجرى بأنه “انتفاضة “ يقودها أفراد من الجيش التركي، وهو ما فُهم على أنه دعم وقبول بالانقلاب. وراء ذلك ترفض الولاياتالمتحدة طلب تركى ملح ومتكرر بتسليم فتح الله جولن زعيم حركة “خدمة”، الذى يتهمه أردوغان بتنفيذ محاولة الانقلاب، والمقيم فى ولاية بنسلفانيا منذ عام 1999. وبرغم الاتفاقية الموقعة فى عام 1979 بين البلدين – اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة القانونية فى الجرائم الجنائية-، ورؤية أنقرة شقاً جنائياً فى إدانة جولن، تعتقد واشنطن جولن “متهماً سياسياً”، ولا يجوز تسليمه وفقاً لنص المادة الثالثة من الاتفاقية، التى لا تجيز تسليم المطلوبين بين البلدين بسبب آرائهم السياسية، أو بسبب ارتكابهم جريمة سياسية أو عسكرية بحتة!. ويرتبط السبب الرابع بتصاعد منحنى القلق بين أردوغان- أوباما بتوسيع تركيا نطاق عمليات “درع الفرات” فى الشمال السوري، التى أسفرت عن سيطرة فصائل الجيش الحر المدعوم من الجيش التركى على عشرات القرى والبلدات بين جرابلس وحلب. والأرجح أن ثمة قلقا أمريكيا من توغل تركى لا يستهدف تنظيم “داعش” شمال سوريا، قدر ما يسعى إلى قضم جذور الأكراد غرب الفرات، وبرز ذلك فى صعود وتيرة الاشتباكات المسلحة بين الفصائل المدعومة بالدبابات التركية من طرف، وقوات سوريا الديمقراطية من طرف آخر فى ريف جرابلس الجنوبي. كما أن ثمة مخاوف لدى إدارة أوباما أن تنجر قوات التحالف الدولى، التى تعزز القوات التركية جواً إلى حرب مباشرة مع قوات الأسد. ولا تقتصر المخاوف الأمريكية على ما سبق، فثمة قلق من توسع جغرافى تركى على الأرض السورية مع اتجاه أنقرة لحشد المزيد من قواتها، والمرشحة أن تصل من 450 جنديا إلى نحو 15 ألف جندي، بينما ما زالت دمشق تكتفى بإدانة توغل تركيا أراضيها لطرد “داعش” و الأكراد من ريف حلب، مع الدعوة إلى التنسيق مع الحكومة السورية، وهو ما تعتبره واشنطن تقاربا بين الجانبين، بدأت ملامحه فى التبلور مع أنباء عن تفاهمات تتضمن انطلاق قوافل الإغاثة من الحدود التركية إلى مناطق النظام فى حلب بجانب احتمال قيام وفد أمنى سورى بزيارة أنقرة، لبحث التعاون المشترك فى محاربة “حزب العمال الكردستاني” وإحياء اتفاق آضنة الموقع فى عام 1998. الأرجح أن السلوك التركي، واتهام وزير الخارجية التركى “وحدات حماية الشعب” الكردية بتنفيذ عمليات “تطهير عرقى وتوطين أنصارها” فى شمال سوريا، آثار قلقا أمريكيا من حدود وتداعيات “درع الفرات”، وهى العملية العسكرية الأكبر، التى أطلقتها تركيا منذ بدء النزاع فى سوريا فى مارس 2011، واعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية المواجهات بين تركيا والمقاتلين المدعومين من الكرد فى شمال سوريا “غير مقبولة وتسبب قلقاً عميقاً”، داعية الأطراف المعنية إلى وقف القتال. فى هذا السياق العام جاء اللقاء بين أوباما وأردوغان على هامش قمة العشرين فى 4 سبتمبر الجاري، ليحمل بين طياته دلالات عدة منها: أن العلاقة بين البلدين وإن كانت تشهد نوعاً من التراجع، فهى ليست مرشحة للقطيعة، فتركيا تحمل تاريخياً منذ خمسينيات القرن الماضى أولوية خصوصا لدى أى إدارة أمريكية، ولا تضاهيها أى دولة فى أهميتها الجيو - إستراتيجية للمصالح الأمريكية، بينما تعتبر واشنطن ظهيرا إستراتيجيا لأنقرة فى كثير من القضايا الدولية والإقليمية. وترتبط الدلالة الثانية للقاء، بأن ثمة قناعة قائمة ومتجددة لدى إدارة أوباما، بأن تركيا دولة مفتاحية ونقطة استناد إستراتيجية فى تسوية النزاع السورى مروراً بحفظ التوازن السياسى فى المنطقة، وأيضا على صعيد مكافحة تنظيم “داعش”. فى المقابل كشف اللقاء أن واشنطن باتت مقتنعة بأن المؤسسة العسكرية لم يعد ممكناً لها أن تتحكم بالدولة، حيث تشير الإجراءات التى تتخذها تركيا عشية الانقلاب الفاشل إلى تراجع دور الجيش بعد عزل واعتقال قطاع معتبر من قياداته، وصدور مراسيم قانونية ربطت قيادة الأركان وأجهزة الاستخبارات بالرئاسة مقابل منح وزير الدفاع حق تعيين قيادات قوات البر والبحر والجو، وهو ما يعنى تراجع الدور السياسى للجيش لمصلحة الطابع المهني. وترتبط الدلالة الرابعة للقاء بحرص أمريكى على إصلاح العلاقة مع أنقرة الحليف التقليدي، والعضو الأطلسي. واستبق هذا اللقاء تأكيد نائب الرئيس الأمريكى عشية زيارته أنقرة فى 24 أغسطس الماضى أن واشنطن أبلغت الأكراد – الشركاء الأساسيين فى الحرب على داعش- بعدم العبور إلى غرب الفرات، كما جاء فى بيان للبنتاجون نهاية أغسطس الماضى “أن الولاياتالمتحدة كررت طلبها بعودة وحدات حماية الشعب شرق الفرات، وأنها تدرك أن ذلك هو ما حدث إلى حد كبير”. على صعيد ذلك فإن الظروف والتفاهمات التركية الجديدة، التى كشفتها زيارات المسئولين الأمريكيين لأنقرة، جعلت واشنطن أكثر إدراكا لخطأ الأكراد حينما تجاوزوا غرب الفرات لربط المناطق الكردية، وجعلتها أكثر اقتناعا بضغوطات اللاجئين على كاهل أنقرة, لذا فإن قبول عملية “درع الفرات”، ولقاء الرئيسين على هامش قمة العشرين، يسعى لتهدئة الخواطر، ويقر بانخراط تركى أكبر فى سوريا، الأمر الذى ربما يسمح لتركيا إقامة منطقة آمنة من دون الإعلان عنها، خصوصا أن تركيا أعلنت أن عملياتها ستستمر لطرد “داعش” من هذه المنطقة مع احتمال السيطرة عليها وعودة اللاجئين إليها، بينما تتراجع لغة أوباما الخشنة بشأن المنطقة الآمنة.