انتهى معرض الكتاب فى دورته الرابعة والأربعين 23 يناير 1 فبراير 2013، وظل شعاره الذى اختاره ليكون محور فاعلياته «حوار لا صدام» معلقا فى الهواء، لم يتحقق منه شىء على أرض الواقع، ونظرة واحدة على وقائع هذه الفاعليات التى جرت طوال أيام المعرض، بين ندوات فكرية وسياسية وأدبية، ومناظرات بين بعض ممثلى التيارات السياسية فى مصر بعد الثورة،كفيلة بتأكيد هذا الفراغ الفكرى والسياسى فكل تيار فى المناقشات ظل ثابتا عند رأيه، لم يغير كلامه الذى يقوله فى الصحف والفضائيات، لم يأت أحد إلى ندوة سياسية أو فكرية، وفى ذهنه أنه سيسمع رأى المخالفين له، بل أتى كل منهم، وهو يضع فى تصوره إستراتيجية هدم لأفكار معارضه. وإذا كانت الندوات، وبعضها أدبى، يدور حول الإبداع مناقشة وإلقاء، لا يمكنها التعبير عن فكرة الحوار، كونها تشمل متحدثا واحدا، أو مجموعة متحدثين فى موضوع معين، أو لمناقشة كتاب واضح الفكرة، والأسئلة غالبا تدور حوله، فإن فكرة المناظرات تكون فى هذه الحالة، هى الأقرب لروح الحوار لا الصدام، لكن ما رأيناه، كان الأقرب لترسيخ مفهوم الصدام لا الحوار، حتى الندوة التى عقدت لمناقشة كتاب «سر المعبد» لثروت الخرباوى، لم تكن إلا ضوءا كاشفا لنفى فكرة الحوار، من جهة، ولإيضاح حجم المسافة التى تفصل اهتمامات النخب عن هموم الجماهير، فالمنصة جلس عليها الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وثروت الخرباوى، والصحفية نشوى الحوفى، طرحت المنصة كلامها، فتحول الأمر إلى معسكرين، منصة تناقش اهتماماتها المسبقة نفسها، وقاعة تطرح أسئلة متشككة ليس بهدف معرفة الإجابة، بل بريبة واضحة. الميزة الوحيدة لهذا المناخ الفكرى، هى عودة «المناظرات» وكانت قد توقفت منذ عام 1992م بعد المناظرة الشهيرة بين الشيخ محمد الغزالى، والمفكر فرج فودة، وعلى إثرها تم اغتيال فودة، فى موجة شملت من بعده نجيب محفوظ وتكفير نصر حامد أبو زيد، وبرغم أن الإسلاميين فى قمة السلطة الآن، وتمثل هذه المناظرات موقع قوة لهم لعرض رؤاهم مع جمهور غير جمهور الفضائيات، فوجئنا بأن نادر بكار مثلا، ممثل التيار السلفى تغيب عن مناظرة رفعت السعيد، ممثل التيار اليسارى والأدهى من ذلك أن الندوة التى لا يكون فيها ممثل للتيار الإسلامى، لا تخلو القاعة من مندوب يجهر بالآراء نفسها التى نسمعها من بقيتهم، وخير مثال على ذلك ما جرى فى ندوة «الكلاسيكيات»، السلسلة التى قامت على نشرها الدار المصرية اللبنانية، وكانت منصتها مكونة من الناشر نفسه، والشاعر فاروق شوشة وصلاح فضل وجابر عصفور الناقدين، وحلمى النمنم أيضا، وكما هو ملاحظ فإن المنصة كلها تنتمى إلى التيار الليبرالى، وقالت ما يحلو لها عن فضائل مصر الليبرالية فى حقبتى العشرينيات والثلاثنينيات، لكن القاعة ردت لها الصاع صاعين، حين قام مندوب الإسلام السياسى، وهو ظاهرة متكررة فى كل ندوات المعرض، بالهجوم على المنصة وسجل اعتراضا على الكلام، وخرج دون حتى إن يسمع ردا على ما قال، المهم أنه مثل تياره وأثبت حضوره. المدهش فى الأمر أن الجميع تحدث عن «أخونة» المعرض، ومحاولات أخونة الثقافة، برغم أن الصوت الليبرالى واليسارى كان الأعلى والأكثر وضوحا، ربما لأنه الأكثر خبرة بالكلام، والأقدر على مخاطبة جمهور نوعى، فى معرض الكتاب، لكن حديث الأخونة، ربما أتى من ملمحين أساسيين الأول هو فوز المهندس عاصم شلبى، المحسوب على تيار الإسلام السياسى، برئاسة اتحاد الناشرين العرب، وكان قبلها فاز برئاسة اتحاد الناشرين المصريين، بعد انسحاب محمد رشاد المرشح الأقوى المطروح على الساحة وقتها، وهو المنصب الذى كاد يضيع على مصر، وهى التى رأست بالعرف الاتحاد العربى للناشرين منذ إنشائه. والملمح الثانى الذى أثار حديث الأخونة، كان الاستقالة المفاجئة والمريبة لوزير الثقافة محمد صابر عرب، ومهما قيل فى تبرير هذه الاستقالة، فإن سببها سيظل غامضا وإن قيل فى أسبابها، إنها جاءت لاعتراض الرئاسة والداخلية، على مد فترة المعرض دون الرجوع إليهما، أو لأن مجلس الوزراء، يضيق ماليا على الوزارة فى الوقت الذى يمنح فيه وزارات يرأسها إخوانيون بسخاء، كما يستشهد بوزارة الشباب والرياضة، لكن السبب الحقيقى والذى تأكدت «الأهرام العربى» منه على لسان مسئولين كبار فى الوزارة، هو أن هناك خطة سيتم تنفيذها بعد انتهاء المعرض بفترة، أو فى أحسن الأحوال بعد الانتخابات البرلمانية، نهاية إبريل المقبل 2013، لتقليص عمل الوزارة برمتها، ودمج بعض الهيئات فيها، وإسنادها إلى وزير إخوانى. والمناظرات التى جرت فى هذا المعرض ترسخ هذا الاعتقاد، فما الذى جرى؟ ولنتأمل المناظرات التى جرت وكيف أنها رسخت لفكرة المعسكرين المختلفين، وباعدت بين المتناظرين بدل أن تقرب بين رؤاهم. ففى مناظرة مستقبل الصراع السياسى فى مصر، التى ضمت أربعة وجوه معروفة، اثنين منهما «حرية وعدالة» واثنين ليبراليين، فمثلا الحرية والعدالة هما: أحمد أبو بركة المحامى المعروف، وحسين عبد القادر، مسئول الاتصال فى الحزب، والطرف الآخر مثله جورج إسحاق، ومصطفى النجار، فى المناظرة قال كل طرف كلامه المعروف، جورج إسحاق وقف عند الفشل الحكومى والرئاسى، وكيف أن د. مرسى أخلف كل وعوده التى قطعها أثناء الانتخابات الرئاسية، وأضاف إسحاق أن الرئيس محمد مرسى أسير مكتب الإرشاد، لكننا نعرف حزب الحرية والعدالة، ووصف جورج إسحاق حوار الرئيس وحزبه مع المعارضة بحوار الطرشان، لا يستمع إليه أحد، وضرب مثالا باللقاء الذى جمع د. مرسى مع عبد المنعم أبو الفتوح، وعمرو موسى، وحمدين صباحى، ومحمد البرادعى فى إطار فتح صفحة جديدة، وبداية حوار وطنى، ثم خرج الرئيس بالإعلان الدستورى المستبد. أبو بركة من جانبه، أصر على أن مصر تولد من جديد، والثورة ليست وليدة اليوم، وأنها كانت ضمن أهداف حسن البنا (!!) عندما رسم الغابات وألف الأسرة ومنها الإرادة الوطنية، وأضاف أبو بركة، دون مناسبة، نحن لا نباع ولا نورث ولابد أن يكون الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطة. ودخل عبدالقادر على الخط مساندا ومعضدا لأبو بركة، فأشار بداية إلى أن العام المقبل سيشهد حوارا دون صدام (!!) وقال: نحن الإخوان تربينا على الوطنية والانتماء ومناصرة المبادىء، وكل هذا يستلزم قوى نفسية عظيمة ووفاء ثابتا، ورد على إسحاق بأن الرئيس مرسى ليس أسير مكتب الإرشاد، وقال كلام الإخوان الذى يصرون عليه داعيا المعارضة إلى الاحتكام إلى الصندوق، فإذا انتخبهم الشعب يكونون هم أصحاب السلطة، ويتحول الجانب الدينى إلى المعارضة. وهكذا يتكلم جورج إسحاق فيرد عليه أبو بركة، ويتكلم حسين عبد القادر فيهاجمه جورج إسحاق. أما مناظرة «المثقفون والصراع السياسى» وكان طرفاها د. صلاح فضل، ود. حسام عقل، وهما ناقدان أدبيان وليس فيهما من يمثل الصراع السياسى، والمفترض بداهة أنهما متفقان حتى على أرضية الحقل الدراسى الذى يعملان فيه، لكن صلاح فضل ليبرالى، وحسام عقل انتشرت حوله شائعات بأنه مرشح السلفيين لمنصب وزير الثقافة، وجاء خطابهما مصدقا لعمقهما الفكرى وإن ليس بالحدة نفسها التى سادت المناظرة الأولى. صلاح فضل قال صراحة: إن بعض المتأسلمين يتخذون الدين تجارة، وإنه لن يستطيع أى إنسان أن يفرض علينا شيئا لا يتوافق معنا، مشيرا إلى أنه لا يعرف كيف خرج هؤلاء على المجتمع بدعوات متخلفة تعتبر عارا على تاريخ مصر، وينبغى أن نبرأ ممن يقولها، مستنكرا من يقول إن إلقاء التحية على المسيحيين حرام، وطالب بإلقاء مثل هذه الدعوات فى القمامة لأنها تخالف موروث شعب عريق يرسخ للتعايش. هل سكت حسام عقل؟ أبدا، حيث قال إن الليبرالية الحالية ليست كالليبرالية التى كانت فى مطلع القرن الماضى، بل أصبحت أكثر تسطيحا. أما مناظرة «تردى الوضع الاقتصادى والسياسى فى مصر» فقد غاب عنها الطرف الليبرالى، وتحدث ممثلا حزب الحرية والعدالة فقط وهما د. محمد جودة، عضو اللجنة الاقتصادية فى حزب الحرية والعدالة، والدكتور محمد البلتاجى، رئيس الجمعية المصرية للتمويل الإسلامى، وقد رأى الأول أنه لا يوجد مستثمر يأتى إلى مصر الآن فى ظل هذه الظروف التى خلفتها المعارضة، وأن قناة السويس من الأصول المهمة ويمكن تحويلها إلى مصدر دخل عملاق يدر مائة مليون دولار سنويا، أما د. البلتاجى فقال إن مصر لديها أساس اقتصادى جيد، وغير مهددة بالإفلاس. . كل ما سبق، من إصرار كل حزب فكرى على رؤاه امتد إلى بقية المناظرات، فمناظرة الدستور، سارت على الطريق نفسه. الأمر نفسه ينطبق على مناظرة التحرش التى كانت بين ممثلين للحرية والعدالة والليبرالين، فمارجريت عازر طالبت بكوتة للمرأة، وأن وضع وردة مكان صورة المرأة يؤكد المخاوف من التيار السلفى، ومنال الطيبى المنسحبة من التأسيسية، رأت أن الإخوان وافقوا على عدم تمكين المرأة فى قانون الانتخابات، وأن سيدات الحرية والعدالة فى اللجنة التأسيسية رفضن تجريم العنف الأسرى، طرف الحرية والعدالة قالت ممثلته هدى عبد المنعم إن المرجعية الإسلامية أعلى من المواثيق الدولية والحقوقية، وقالت منال أبو الحسن إن المرأة لا تتعرض للإقصاء ومن تطالبن بالحقوق الآن لم نر وجوههن فى الثورة، وهكذا تحولت المناظرات التى من المفترض أن تجمع الفرقاء إلى تلمس حلول للمشكلات إلى مجرد حوار طرشان لم يستفد منه أحد.