عند سور مستشفى للأمراض العقلية فى أحد ميادين بيونس آيرس الأرجنتينية، كان بعض الصبية يتقاذفون كرة بأقدامهم، وبينما لفت المشهد نظر طفل، تصادف مروره فى هذا التوقيت، فسأل والده عن هوية الصبية، وأجاب الوالد: “إنهم مجانين إنجليز”. وفقا للرواية التى تعود للقرن الثامن عشر الميلادي، بدت الكرة فى مهدها لعبة مجانين، لكن الجنون ظل ملازما لها حتى الآن، ليس لتأثيرها على المستوى الجماهيرى فحسب، بل على مستوى القادة والزعماء السياسيين. لا تعترف كرة القدم بحدود الأوطان أو اختلاف اللغات والثقافات، فقد نجد الكثير من جماهير البلدان العربية، مهووسين بتشجيع أحد فرق الدورى الإنجليزى أو الإسبانى أو الإيطالي، لمجرد أنه يقدم عروضا ممتعة. القوة التأثيرية لكرة القدم، تجعل فرحتها لا تفرق بين مواطن بسيط ومسئول رفيع المستوى، من ناحية هوس التشجيع. فى مقاعد الجماهير الكل سواسية، ولعل لقب “الساحرة”، الذى يطلق على كرة القدم، لا يعود فقط إلى صعوبة توقع نتائج المباريات، لكن سحرها يكمن أيضا فى حالة الجذب التى تصيب عقول وقلوب عاشقيها، وقد يتحول هذا العشق إلى داء مرضي. فى كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل”، يقول الروائى الإرجواني، إدواردو جالياني، وهو بالمناسبة واحد ممن استهوتهم الكتابة عن كرة القدم، رغم أن قلمه اعتاد كتابة الروايات، يتساءل جالياني، ما أوجه الشبه بين كرة القدم والإله!! ويرجع سؤاله هذا إلى حديث المثقفين المحافظين عن كرة القدم، فقد كان لديهم يقين بأن عبادة الكرة هى الشعوذة التى تستحقها الشعوب المصابة بمس اللعبة، واعتبروا أن هؤلاء يفكرون بأقدامهم بفرض غريزة تسيطر عليهم، وهناك مثقفون يساريون يزدرون الكرة لأنها تحرف الشعوب عن النشاط الثوري. ومثلما تأتى فرحة الكرة لتسعد البسطاء مجانا دون أن يتكبدوا مليما واحدا، هناك زعماء ورؤساء دول مصابون بهوس الساحرة المستديرة، وهناك زعماء آخرون كانت كرة القدم منقذا لعروشهم وعاملا أساسيا فى زيادة شعبيتهم، وهو ما يمنحها قوة أخرى خارج عناصرها من لاعبين ومدربين وحكام. وفوق هذا وذاك، تعد كرة القدم مؤشرا مهما فى أداء الأجهزة الأمنية للدول، ولهذا السبب أصرت الرئيسة البرازيلية السابقة، ديلما دى سيلفا، على إقامة كأس العالم 2014، التى كان مقررا انطلاقها بالبرازيل، رغم مرور البلاد بأزمة اقتصادية طاحنة، تسببت فى خروج الكثيرين للتظاهر فى شوارع العاصمة “ريو دى جانيرو”، واعتمدت دى سيلفا على أن البطولة ستنسى الجماهير المعاناة، وقد كان. ونفس السبب أيضا، دفع القيادات السياسية والأمنية فى فرنسا، لإقامة بطولة كأس الأمم الأوروبية (يورو 2016)، على الرغم من أحداث التفجيرات التى شهدتها العاصمة باريس، بالقرب من مسرح باتكلان الشهير، حتى بعد وقوع أحداث شغب فى شوارع مارسيليا، كادت أن تعصف بالبطولة، وقفت قوات الأمن بالمرصاد فى وجه المشاغبين، وتعمدت بث رسالة إلى العالم بأن الدولة قادرة على ردع الإرهاب. هذا من ناحية تزيين صور رؤساء الدول أمام الرأى العام، أما أقرانهم من مجانين التشجيع، فلم يختلف حالهم من حيث الرغبة فى تحقيق مأرب بعينه، فوجودهم بشكل دائم فى المدرجات، يقربهم أكثر للطبقات المتواضعة فى المجتمع. وإذا كان قادة وزعماء العرب لا يميلون إلى التخلى عن الوقار أثناء وجودهم فى المدرجات، التى لم تطأها أقدامهم سوى فى افتتاح البطولات التى تستضيفها دولهم باستثناء ملك الأردن، الملك عبدالله، المولع بتشجيع الكرة، فإن الوضع فى أوروبا مغاير تماما، وليس غريبا على أعين الجماهير هناك أن ترى رئيس دولة يؤازر منتخب بلاده من ملعب المباراة، ويتحول إلى مشجع “درجة ثالثة”. تعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، واحدة من أشهر رؤساء الدول المولعين بتشجيع الكرة، وقد ظهرت فى نهائيات كأس العالم 2014 بالبرازيل، تؤازر منتخب “الماكينات” من المدرجات، وقد رصدتها عدسات المصورين فى لقطة مع لاعبى منتخب بلادها داخل غرف ملابس اللاعبين، عقب تتويجهم بالبطولة، وقد سبقها إلى هذا ملك إسبانيا، خوان كارلوس، فقد أصر على تشجيع منتخب “الماتادور” فى مونديال 2010 بجنوب أفريقيا، من المدرجات مرتديا وشاحاً بعلم المنتخب الذى توج باللقب. وفى نهائيات كأس العالم 1998، كان الرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك من أشهر الوجوه التى وقفت خلف منتخب “الديوك”، الذى تربع على عرش الكرة العالمية فى تلك النسخة، وحرص شيراك على حضور جميع مباريات الفريق متخليا عن البروتوكولات، وظهر فى المدرجات ينفعل مع كل فرصة وكل هدف، ويقفز فى الهواء تعبيرا عن الفرحة، ولعل القبلة التى طبعها شيراك على رأس الحارس العملاق “الأصلع” فابيان بارتيز من أهم المواقف التى علقت بذاكرة عشاق الكرة فى فرنسا، حيث كان قائد المنتخب الفرنسى لوران بلان هو من يقوم بذلك عقب كل هدف. لا تفرق الكرة فى جنونها بين المواطن البسيط أو القائد السياسى المحنك، وإذا كان الأول يبحث فى ملاعبها عن الفرحة، فإن مكاسب الأخير من ورائها تعددت، ما بين التقرب إلى الشعوب والاستغلال السياسى.