قال الجاحظ :إن أهل مصر يستغنون بما فيها من خيرات عن كل بلد حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور ماضرهم. فهل يمكن للبلدان الأخرى أن تستغني عن مصر وأهلها ؟ إنه سؤال جوهري في حد ذاته ولهذا لن نكتفي بإجابة عَرَضية محاولين الرد ولو على بعض منه في هذه الأسطر . مر أسبوعان على مغادرتي لمصر ولازالت مشاعر الألفة والمودة تشدني بقوة .اليوم فقط عذرت الإسكندر الأكبر عندما أتاها غازيا فتدين بدين أهلها وكذلك إلتمست العذر لنابليون وروميل قائد قوات هتلر .نعم إنه سحر مصر المحروسة بلا منازع . عشقي لها يختلف ولايقتصر على حب مثل حب شخصية عزيزة التي ذكرتها بدرية البشر في روايتها غراميات شارع الأعشى ،تلك الفتاة المولوعة بالأفلام المصرية التي فقدت نعمة البصر مؤقتا بسبب عاصفة رملية وفِي عيادة الطبيب المصري أطالت الإصغاء الى صوته لأنها وجدت فيه لهجة حسين فهمي ورشدي أباظة أو ربما شكري سرحان ،فغرمت به لأنها كانت تريد أن تعيش حياة شبيهة بحياة نجوم السينما سعاد حسني وفاتن حمامة ،وتهرب من حياة مكبلة بالعادات والتقاليد مثقلة بمظاهر التشدد .هنا فقط انفلتت مني ضحكة ارتياح وشكرت القدر لأنني أنتمي الى بلد لم يقيد للمرأة حريتها ولدستور جديد جعل المغرب وتونس يحتلان مكان الريادة في حقوق المرأة والطفل ،ودعوت من كل قلبي لعزيزة وبنات وطنها متفائلة بالمبادرة الأخيرة التي خولت لهن الحق في قيادة السيارة داعية بالهداية لمشايخهم . ربما إرتباطي بمصر مختلف عن إرتباط عزيزة فمن لم يرها ولَم ير أهلها فما رأى الدنيا ولا الناس ،ولعل أقدام الأنبياء الطاهرين التي وطأتها هو جزء من سحرها . عندما تتجول بين شوارع القاهرة لا تشعر بالغربة أبدا ،تتفقد وجوه المصريين وهم يبادلونك التحية بابتسامة عريضة وعبارات الود والترحاب وكلما عرفوا أو أحسوا بأنك غريب زاد على عاتقهم حسن الاستقبال ،شعب مؤدب وخلوق ،صبور لأقصى درجة ذو تركيبة غريبة أصابتني بالذهول . هذا الرقي الموجود بين كافة طبقات المجتمع يجعلني أكاد أُجزم وبدون مجاملة أو إنحياز أنه لا يوجد بأي بلد عربي أو أوروبي ،وما يدعو الى الدهشة والغرابة أيضا الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ورغم كل الأزمات لازال هذا الشعب يحتفظ بابتسامته وروح الدعابة التي لا تقتصر على أقرباءه أو معارفه وإنما كمية من الحب تتدفق لتصل الغرباء .فأي شعب هذا وأي أرض تلك التي لها القدرة على أن تنشر البهجة والسرور ربما هي في أمس الحاجة إلية وتفند المقولة الشهيرة :فاقد الشيء لا يعطيه . ما تكاد تفكر في عظمة القاهرة وشوارعها حتى يتراءى لك النيل الذي أَلَهه المصريون القدماء وكان ملهما للشعراء والأدباء . عندما تجلس بالمركب ليلا تنعكس على مياهه أضواء برج القاهرة والفنادق المحيطة به ،يكون دا لون أسود متلألأ بالأضواء ومن هنا نستحضر رائعة الشاعر أحمد شوقي النيل العذب هو الكوثر : النيل العذب هو الكوثر والجنة شاطئه الأخضر حبشيّ اللون كجيرته من منبعه وبحيرته صَبَغ الشطين بسمرته لونا كالمسك وكالعنبر حفظ الله نيلوس والنهر العظيم إتيرو ورحم الشاعر الكبير حافظ ابراهيم عندما أبدع في قصيدته وقال : سلب السماء نجومها فهوت بلجته تعوم شفت لأعيننا سوى ما شابَهُ منها الأديم وشاءت الأقدار أن تأخذني الى رحاب مولانا الحسين ليلا لأتجول بين أزقته في ساعات متأخرة في جو يسوده الأمن والأمان لا يقطع طريقي سوى عبارات التحية والترحاب متسائلة في قرارة نفسي لاعنة بعض القنوات الفضائية التي أفزعت مشاهديها خارج مصر بحالات التحرش الفردية التي تمنيت أن تبقى قيد الكثمان وأن يأخد فقط القانون مجراه ،فالتحرش موجود في العالم بأسره ولمثل تلك الوقائع التي تعرض على الهواء وقع سلبي على السياحة ،وهي وقائع فردية لا تمثل شعبا بأكمله لأنهم فعلا ليسوا كذلك . في مدة لم تتجاوز الأسبوع عشت بهذا البلد أياما ستظل خالدة في ذهني بعدما انقطعت زيارتي لها مدة ستة سنوات ،لازلت أتذكر تفاصيلها أحن إلى شوارعها ،يشدني الحنين الى أزقتها وشعبها الطيب الودود بدون استثناء مستغلة الفرصة اليوم لأجيب عن مقولة الجاحظ بكل ثقة يمكن لمصر ان تستغني عن كل بلد كما قلت لكن لا يمكن لباقي الشعوب الاستغناء عنها ،حفظ الله مصر وشعبها.