يشكل الانتحار ظاهرة عالمية لا تفرق بين دول العالم النامي والمتحضر، فالكل في الهم سواء، حيث تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية أن وفاة نحو 800 ألف شخص منتحر سنويا، أي بمعدّل شخص كل 40 ثانية في فئة الشباب بين 15 و29 سنة. ورغم أن الدول الغربية ترتفع فيها نسب الانتحار مقارنة بالدول العربية، فان بعض الدول العربية تحتل مراكز متقدمة في نسب الانتحار كالسودان التي ترتفع النسب فيه بما يعادل الانتحار بقارّة آسيا كاملةً. ورغم أن عامل الدين في المنطقة العربية ومنها وطننا العراق كان يقف حائلا دونما وقوع حالات من الانتحار إلا نادرا وترتبط بحالات من الفصام والاضطرابات النفسية والعقلية، فإن المنطقة العربية شهدت تجاوز المانع الديني في السنوات العشر الأخيرة وارتفعت فيها وتيرة الانتحار خاصة منذ انتحار التونسي البوعزيزي مفجرا ما سمي بثورات الربيع العربي. وأجمعت كل الدراسات المتخصصة في مجال تحليل الانتحار ، علي أن المناطق التي تكثر فيها النزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة أو الفقدان والشعور بالعزلة ترتفع بين سكانها معدلات الانتحار، خاصة بين الفئات المستضعفة التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين. ولما كان العراق نهبا للأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 وحتى اليوم، فإنه يواجه مشكلات التشرد والعنف الدموي وعدم الاستقرار السياسي والتمييز الطبقي والطائفي بحق المهمّشين والمهاجرين واللاجئين. كل هذه العوامل شكلت بيئة خصبة للاكتئاب وعدم القدرة لدي الكثيرين في التكيف مع الواقع المرير، وفقدان الثقة بالمستقبل نتيجة عدم القدرة لديهم على التغيير، بجانب ما تعرض له الكثيرين من قمع للحريات الدينية والسياسية وسلب الإحساس بالأمان بفعل الرعب الذي زرعه تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية بالعراق. وما يؤكد هذا الطرح، تقرير لمنظمة الصحة العالمية معنون ب "الوقاية من الإنتحار ضرورة عالمية" يؤكد فيه أن ارتفاع نسبة الانتحار في بعض الدول العربية ومنها العراق والسودان نتيجة عدم الاستقرار والحرب والفقر والتشريد، إذ يعاني الكثير من الشباب في تلك الدولتين العربيتين من شعور عدم الجدوى، ويقرروا وضع حدّ لحياتهم بنفسهم.
ضحايا من كل الأعمار ولعل شعور المواطن بالغربة داخل وطنه بصفته نازح من منطقته الى منطقة أخرى أو مقيم في مخيم هنا أو هناك، وتعذر حصوله على الأمن وصعوبة حصوله على عمل، بجانب ما قد يصادفه من إهانة لذاته وكرامته الانسانية تبرر وقوع عشرات الحالات من الانتحار. للأسف الشديد، فان الانتحار في العراق بقدر ما يأخذ منحني تصاعديا، فانه يحصد أرواح مختلف الاجيال أطفالا وشبابا وشيوخا، خاصة في بغداد وذي قار والموصل، بينما تتنوع طرق الانتحار في العراق ما بين استخدام الشنق بالحبال، والرمي بالرصاص، والصعق بالكهرباء والغرق في مياه الأنهار وتناول السموم والعقاقير الطبية وكذلك الحرق لدى الفتيات.
عوامل مستمرة وطالما الأسباب التي أدت لانتحار هذه الفئات ما تزال قائمة، فان هذا يعني ايضا استمرار ظاهرة الانتحار في العراق التي تسجل نسب مئوية منخفضة رسميا، ولكن المؤشرات تذهب إلى أن أعداد المنتحرين أكثر بكثير مما تشير اليه النسب الرسمية بالعراق، وذلك بسبب عوامل دينية وأخرى عشائرية ترفض البوح والاعلان عن الضحايا من المنتحرين. بل ان هذه الاسباب نفسها تتفاقم وتشتعل مع استمرار عدم الاستقرار السياسي والامني بالعراق ومع استمرار التيارات المتشددة بالبلاد وهو ما يعني ان ظاهرة الانتحار بالعراق مؤهلة للتفاقم والنمو مالم يتدخل المسئولون لبحثها وعلاجها ووأد الأسباب التي تؤدي اليها. فالمنتحر يطلق صرخة أخيرة وهو يودع حياته لمجتمعه يعلن فيها عجزه التام عن التكيف مع الوضع المأزوم في بلاده، وعدم قدراته على حل مشكلات بنفسه، وأن ما آل اليه وطنه من تفتت وانهيار اقتصادي وسياسي وقيمي قد أشبعه كأسا من الاكتئاب بات لا يفارقه ولم يعد يحتمل الحياة معه. فالمنتحر نظر للحياة نظرة سوداوية لا يرى من خلالها بصيص أمل يدفعه للتمسك بالحياة، في الوقت الذي يدق فيه ناقوس الخطر للمجتمع كي ينتبه وينقذ باقي أفراده من براثن الاكتئاب واليأس.
كوارث الانتحار محافظة ذي قار، تتصدر العراق في تحقيق أعلى نسب للانتحار، وفقا لدارسة بإحدى الجامعات العراقية، وهو الأمر الذي دفع عدة منظمات غير حكومية، لإطلاق مشروع لتوعية الشباب عن الإبتعاد عن التفكير بالانتحار. في السياق نفسه، أكدت مفوضية حقوق الإنسان في العراق انها سجلت 3 الاف حالة انتحار خلال الاعوام الثلاثة الماضية مرجعة ذلك الى مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية، بجانب حالات التفكك الاسري. وكشفت المفوضية عن ان محافظة ذي قار جنوبالعراق، هي الأكثر من حيث عدد حالات الإنتحار. وطبقا للإحصائيات فإن"الانتحار يشمل الرجال و النساء لاسيما الفتيات. وتشير الإحصائيات الحكومية إلى أن محافظة ذي قار جنوبالعراق احتلت المرتبة الأولى في عدد حالات الانتحار بين محافظاتالعراق، حيث شهدت تسجيل 220 حالة للفترة من 2004 وحتي 2015 تلتها محافظة المثنى ب 118 حالة انتحار للفترة نفسها والنجف ب 98 حالة. وسجلت محافظة ذي قار ارتفاعا ملحوظا بحالات الانتحار خلال العامين الماضين، حيث وثقت 92 حالة انتحار فعلية و72 حالة انتحار فاشلة بحسب البيانات الرسمية لمديرية شرطة المحافظة.
جهود مبذولة سعت مؤسسات المجتمع المدني لرصد وتحليل وعلاج ظاهرة الانتحار بالعراق، ومنها خلية ازمة الانتحار في محافظة ذي قار، كشفت عن تسجيل مناطق المحافظة 26 حالة بشكل عام منذ بداية عام 2017 ، بينما سجلت احصائيات العام 2016 حالة انتحار واحدة اسبوعياً ، وأن معظمهم من المتعلمين. وعزت هذه المؤسسة ارتفاع الانتحار في هذه المحافظة الي غياب دور الاسرة والباحث الاجتماعي ورجال الدين. ودعت لضرورة نشر الوعي الديني والأخلاقي بين صفوف المجتمع للحد من ظاهرة الانتحار. بينما سجلت جمعية "الأمل" لحقوق المرأة في محافظة كركوك، تسجيل 20 حالة انتحار خلال شهر واحد داخل المحافظة، داعية الحكومة الاتحادية الى إطلاق برنامج للحد من هذه الظاهرة. كما أعلنت منظمة التواصل والإخاء الإنسانية في المحافظة، عن قرب افتتاح مركز متخصص لمعالجة أسباب الانتحار، هو الاول من نوعه في العراق، ويضم باحثين اجتماعيين وأطباء نفسيين وأكاديميين من جامعة ذي قار، ويعمل بالتنسيق مع عدد من رجال الدين ومديرية شرطة البلدة .
المرأة والطفل وترصد التقارير لجوء الأطفال بالعراق للانتحار بسبب ما تعرضوا له من عنف أسري ومجتمعي داخل البيت والمدرسة، وغياب الحوار مع الطفل وانقطاعه عن الدراسة بجانب وادمان حبوب الهلوسة المنتشرة في بعض المدارس الابتدائية في العراق. أما المرأة في بعض المنطق العراقية فراحت ضحية عدم القدرة على تحمل مسئولية الصغار في حالة غياب الأب بالموت، وهنالك الكثيرات ممن انتحرن في النجف بسبب وضع اطفالهن الصعب، ولأنهن لم يستطعن إعالتهم فإنهن اخترن الانتحار بشكل جماعي. وهناك النساء ضحايا جرائم غسل الشرف و هن بريئات من هذه التهم وفقا لما زرعته جماعات الاسلام الديني المتشدد، مما جعل الكثير من الفتيات يقدمن على الانتحار، فضلا عن تعرض المرأة للابتزاز عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعرض الفتاة لضغط نفسي شديد يؤدي إلى الانتحار.
إنقاذ المجتمع ورغم الجهود المبذولة مؤخرا لدراسة وعلاج ظاهرة الانتحار بالعراق، فان هذه الجهود لاتزال قاصرة عن بلوغ الأمل في تراجع أعداد المنتحرين، مع استمرار قلة الوعي بين الشباب والمراهقين الذين يلجأون الي المخدرات للهروب من آلامهم النفسية وقسوة واقعهم. فأداء المؤسسات الصحية والبحثية ضعيفا للغاية ولا يرقي لمستوي علاج هذه الظاهرة المؤلمة، بجانب قصور وزارة الصحة نفسها لأنها تتحفظ على احصائيات حالات الانتحار، في الوقت الذي يكشف حقيقته اعتراف رسمي لمجلس النواب بازدياد حالات الإنتحار بين الشباب العراقي، مطالبة الحكومة بعدم الاكتفاء بدور المتفرج والإسراع في إقرار قانون العنف الأسري وإجراء مسح شامل لمعالجة هذه الظاهرة. وهذه المأساة الانسانية ناقوس خطر على مستقبل المجتمع العراقي، فالانتحار هو يأس من الحياة، وزيادة معدلاته يكشف ان مستقبل الوطن مهدد بأخطار جسمية، فلا يستقيم لمجتمع ان ينهض لمواجهة تحدياته بمعزل عن روح الأمل بين أبنائه. فلا ينبغي ان ندفن رأسنا في الرمال كالنعامة ونتستر رسميا عن كارثة الانتحار بالعراق، بل يجب ان نواجهه برصدها ووضع الحلول الناجحة لها عبر تكاتف جهود السلطات الرسمية والجهات الأكاديمية والدينية المختصة لوضع خطة عمل مخلصة لعلاج مثل هذه الحالات المرضية نفسيا وخضوعها لجلسات طبية نفسية متخصصة، وجلسات اخرى دينية وتوعوية وثقافية تخلق نور الأمل في نفوسهم وتحبط مشاعر الاحساس باليأس. وفي تقديري، أننا في أشد الحاجة الى التوسع في انشاء مراكز علاجية متخصصة في علاج المأزمين نفسيا داخل مخيمات النزوح، وتقديم النصح الاعلامي والثقافي لمن حاولوا الانتحار، مع ضرورة الاسراع بعلاج مشكلات الفقر البطالة وتوفير بيئة عراقية صالحة للحريات السياسية والدينية تنتصر لكرامة الانسان وعزته وتحافظ على كرامته .