قضايا الحرية لا تتجزأ.. ولا تنفصل عن بعضها البعض. بل تنعقد جميعها في رباط واحد يضمها معا وإن اختلفت عناوينها ومفرداتها ولافتاتها.. حرية المرأة.. حرية العقيدة والفكر.. الحرية السياسية.. حرية التعبير وإبداء الرأي.. كلها قضايا تندرج تحت لافتة واحدة كبيرة اسمها: الحرية.. يلتقط كاتبنا الكبير محمود الورداني هذه الخيوط التي تبدو للوهلة الأولي أنها متشابكة ومختلفة وإن كانت في الحقيقة متواحدة.. ويقوم بغزلها في ثوب ونسيج واحد.. يعرض هنا في كتابه (حكايات الحرية الهيئة العامة لقصور الثقافة) لأبرز قضايا الحرية التي عاركها الشعب المصري إبان العقد المنصرم, ويضيف في نهاية الكتاب فصلا كاملا عنوانه (ثورة الورد) يتناول فيه وقائع ثورة25 يناير من منظور مختلف.. فهو يحدثنا عن تاريخ ميدان, التحرير الذي أصبح رمزا للحرية والثورة, ليس فقط في بلادنا بل في بلاد العالم كلها.. حكايات الحرية عديدة وثرية.. حكايات تستحق حقا أن نتوقف عندها ونعيد تأملها.. فالتاريخ يكرر (حكاياته) ويعيد (حواديته).. والأهم من هذا كله أن هذه الحكايات لا ترصد معها فقط الأحداث والوقائع التي جرت وإنما تروي معها أيضا قصص الشعوب وأحوالها وطبائعها وسلوكياتها وعاداتها وأنماط الحياة المجتمعية التي تعيشها.. وربما لهذا السبب تحديدا آثر الكاتب أن يرويها علي شكل (حدوتة) ويعرض لها في إطار (روائي).. فهو يعني هنا بالتفاصيل الصغيرة والانطباعات والمشاعر التي اعتملت في صدره.. يضعها في المقدمة أولا ثم يأتي في الخلفية التحقيق التاريخي والأصول الأكاديمية علي حد كلماته.. نعيش مع الورداني حواديت الحرية المختلفة.. بداية بكتاب قاسم أمين الشهير (حرير المرأة) الذي صدرت طبعته الأولي عام 1899 وأثار معه المعارك والخلافات, ومرورا بقضية زواج وطلاق ثم زواج الشيخ علي يوسف رئيس تحرير (المؤيد) من صفية السادات وكانت علامة علي عصر انساق بكامله في اتجاه تأييد الأصل والمنشأ للتفريق بين رجل وامرأة اختار كل منها الآخر علي حد تعبيره. وهناك كذلك كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق, هذا الكتاب الصغير الذي لا تتجاوز صفحاته المائة إلا قليلا والذي أثار خلفه عواصف عاتية, فهو يحدثنا عن علاقة الدين بالدولة وضرورة الفصل بينهما (وهي قضية لاتزال مطروحة إلي يومنا هنا ولم تحسم بعد!). ودفع الرجل ثمنا باهظا دفاعا عن رأيه وفكره الذي آمن به, إذ تعرض للمحاكمة وتم اخراجه من زمرة العلماء. وتعرض الدكتور طه حسين أيضا إلي محنة شديدة بعد صدور كتابه (في الشعر الجاهلي) إذ نشبت واحدة من أخطر وأشهر القضايا الفكرية والاجتماعية في تاريخنا الحديث, ليس في مصر وحدها بل في عالمنا العربي بكامله. ونال العميد نصيبه من الهجوم الشرس والضغوطات وتلويث السمعة والرأي والعقيدة بل واتهامه بالسرقة والسطو(!). وكيف يمكن أن ننسي ما حدث لكاتب نوبل العظيم نجيب محفوظ حينما تعرضت روايته (أولاد حارتنا) للمنع والمصادرة ووصل الأمر إلي حد محاولة الاغتيال! هذه الرواية شاهدة علي التحولات العاصفة التي جرت في بلادنا علي مدي نصف قرن من الزمان كان سلاح التكفير فيها جزءا من عملية القمع التي لجأت إليها أجهزة الدولة وكانت الحرية الضحية الأولي والأخيرة له.. وفي فصل من فصول الكتاب عنوانه (كنت شاهدا علي معركة نصر أبوزيد في ألمانيا عام 1996) يعرض الورداني للأزمة التي تعرض لها هذا المفكر الكبير التي وصلت إلي حد الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته وبالتالي ارتداده علي الإسلام. يقول الكاتب: إن المعركة الحقيقية ليست بين نصر أبوزيد وخصومه, بل هي بين المجتمع المدني والدستور وخصومه, بين العقد الاجتماعي المبرم بين المواطنين والدولة. ويزخر الكتاب بحكايات أخري عديدة عن الحرية.. أبطالها عاركوا معارك شرسة من أجل إعلاء مبدأ الحرية في سماء مصر. الحرية ثمنها باهظ حقا.. لا تحظي بها الشعوب دون مقابل.. والمعركة لاتزال مشتعلة.. لم تنطفيء نيرانها بعد.. وحكايات الحرية لن تنتهي أبدا..